فصل في أسرار وحقائق لا يعرف مقدارها إلا من حسن فهمه
قد أتَيْنا على جُملة نافعة من أجزاء الطبِّ العلمي والعملي، لعلَّ الناظرَ لا يظفرُ بكثير منها إلا في هذا الكتاب، وأرَيْناك قُربَ ما بينها وبينَ الشريعة، وأنَّ الطبَّ النبوي نسبةُ طِبِّ الطبائعيين إليه أقلُّ مِن نسبة طب العجائز إلى طبهم.
والأمر فوق ما ذكرناه، وأعظمُ مما وصفناه بكثير، ولكن فيما ذكرناه تنبيهٌ باليسير على ما وراءه، ومَن لم يرزُقه اللهُ بصيرة على التفصيل، فليعلمْ ما بيْنَ القوَّةِ المؤيَّدةِ بالوحي من عند اللهِ، والعلومِ التي رزقها اللهُ الأنبياءَ، والعقولِ والبصائر التي منحهم الله إياها، وبين ما عند غيرهم.
ولعل قائلا يقولُ: ما لهَدْىِ الرسولِ ، وما لِهذا الباب، وذكْرِ قُوى الأدوية، وقوانين العلاج، وتدبيرِ أمر الصحة؟ وهذا مِن تقصير هذا القائل في فهم ما جاء به الرسولُ ، فإنَّ هذا وأضعافَه وأضعافَ أضعافه مِن فهم بعض ما جاء به، وإرشادِه إليه، ودلالته عليه، وحُسنُ الفهم عن الله ورسوله مَنٌ يَمُنُّ اللهُ به على مَنْ يشاءُ من عباده.
فقد أوجدناك أُصولَ الطِّب الثلاثة في القرآن، وكيف تُنكر أن تكونَ شريعةُ المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة مشتملةً على صلاح الأبدان، كاشتمالها على صلاح القلوب، وأنها مُرشدة إلى حِفظ صحتها، ودفع آفاتها بطُرق كُليَّة قد وُكِلَ تفصيلُها إلى العقل الصحيح، والفِطرة السليمة بطريق القياس والتنبيه والإيماء، كما هو في كثير من مسائل فروع الفقه، ولا تكن ممن إذا جهل شيئا عاداه. ولو رُزِقَ العبدُ تضلُّعاً مِن كتاب الله وسُنَّة رسوله، وفهماً تاماً في النصوص ولوازمها، لاستغنَى بذلك عن كُلِّ كَلامٍ سواه، ولاستنبَطَ جميعَ العلومِ الصحيحة منه.
فمدارُ العلوم كلها على معرفة الله وأمره وخَلْقِه، وذلك مُسْلَّم إلى الرُّسُل صلوات الله عليهم وسلامه، فهم أعلمُ الخلق بالله وأمرِه وخَلْقِه وحِكمته في خلقه وأمره.
وطبُّ أتباعهم: أصحُّ وأنفعُ مِن طبِّ غيرهم، وطِبُّ أتباع خاتمهم وسيدهم وإمامهم محمَّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم: أكملُ الطِّب وأصحُّه وأنفعُه.
ولا يَعْرِفُ هذا إلا مَن عرف طبَّ الناسِ سواهم وطِبَّهم، ثم وازن بينهما، فحينئذٍ يظهُر له التفاوتُ، وهم أصَحُّ الأُمم عقولاً وفِطَراً، وأعظمُهم علماً، وأقربُهم في كل شيء إلى الحَقِّ لأنهم خِيرة الله من الأُمم، كما أنَّ رسولهم خيرتُه مِن الرُّسُل، والعلمُ الذي وهبهم إيَّاه، والحلمُ والحكمةُ أمرٌ لا يدانيهم فيه غيرُهم.
وقد روى الإمامُ أحمد في مسنده: من حديث بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتُمْ تُوَفُّون سبعين أُمَّةً أنتُم خَيرُها وأكْرَمُها على اللهِ». فظَهَر أثرُ كرامتها على الله سبحانه في علومهم وعقولهم، وأحلامهم وفِطَرهم، وهم الذين عُرِضَتْ عليهم علومُ الأُمم قبلَهم وعقولهم، وأعمالُهم ودرجاتُهم، فازدادوا بذلك عِلماً وحلماً وعقولاً إلى ما أفاض اللهُ سبحانه وتعالى عليهم مِن علمه وحلمه.
ولذلك كانت الطبيعة الدمويَّةُ لهم، والصفراويَّةُ لليهود، والبلغميَّةُ للنصارى، ولذلك غَلَبَ على النصارى البلادةُ، وقِلَّةُ الفهم والفِطنةِ، وغَلَبَ على اليهود الحزنُ والهمُّ والغمُّ والصَّغار، وغَلَبَ على المسلمين العقلُ والشجاعةُ والفهمُ والنجدةُ، والفرحُ والسرور.
وهذه أسرار وحقائق إنما يعرف مقدارها من حسن فهمه، ولطف ذهنه، وغزر علمه، وعرف ما عند الناس.. وبالله التوفيق.