هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج والتداوي
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج لدغة العقرب بالرقية:
روى ابن أبي شيبة في مسنده، من حديث عبد الله بن مسعود قال: بينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي، إذ سجد فلدغته عقرب في إصبعه، فانصرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: (لعن الله العقرب ما تدع نبيًا ولا غيره)، قال: ثم دعا بإناء فيه ماء وملح، فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح، ويقرأ {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1]، والمعوذتين حتى سكنت.
ففي هذا الحديث العلاج بالدواء المركب من الأمرين: الطبيعي والإلهي، فإن في سورة الإخلاص من كمال التوحيد العلمي الاعتقادي، وإثبات الأحدية لله، المستلزمة نفي كل شركة عنه، وإثبات الصمدية المستلزمة لإثبات كل كمال له مع كون الخلائق تصمد إليه في حوائجها، أي: تقصده الخليقة، وتتوجه إليه، علويها وسفليها، ونفي الوالد والولد، والكفء عنه المتضمن لنفي الأصل، والفرع والنظير، والمماثل مما اختصت به وصارت تعدل ثلث القرآن، ففي اسمه الصمد إثبات كل الكمال، وفي نفي الكفء التنزيه عن الشبيه والمثال. وفي الأحد نفي كل شريك لذي الجلال، وهذه الأصول الثلاثة هي مجامع التوحيد.
وفي المعوذتين الإستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلًا، فإن الإستعاذة من شر ما خلق تعم كل شر يستعاذ منه، سواء كان في الأجسام أو الأرواح، والإستعاذة من شر الغاسق وهو الليل، وآيته وهو القمر إذا غاب، تتضمن الإستعاذة من شر ما ينتشر فيه من الأرواح الخبيثة التي كان نور النهار يحول بينها وبين الإنتشار، فلما أظلم الليل عليها وغاب القمر، انتشرت وعاثت. والاستعاذة من شر النفاثات في العقد تتضمن الاستعاذة من شر السواحر وسحرهن. والاستعاذة من شر الحاسد تتضمن الإستعاذة من النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها ونظرها.
والسورة الثانية: تتضمن الإستعاذة من شر شياطين الإنس والجن، فقد جمعت السورتان الإستعاذة من كل شر، ولهما شأن عظيم في الإحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها، ولهذا أوصى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عقبة بن عامر بقراءتهما عقب كل صلاة، ذكره الترمذي في جامعه وفي هذا سر عظيم في استدفاع الشرور من الصلاة إلى الصلاة. وقال: ما تعوذ المتعوذون بمثلهما. وقد ذكر أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سحر في إحدى عشرة عقدة، وأن جبريل نزل عليه بهما، فجعل كلما قرأ آية منهما انحلت عقدة، حتى انحلت العقد كلها، وكأنما أنشط من عقال. أما العلاج الطبيعي فيه، فإن في الملح نفعًا لكثير من السموم، ولا سيما لدغة العقرب، قال صاحب القانون : يضمد به مع بزر الكتان للسع العقرب، وذكره غيره أيضًا. وفي الملح من القوة الجاذبة المحللة ما يجذب السموم ويحللها، ولما كان في لسعها قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج جمع بين الماء المبرد لنار اللسعة، والملح الذي فيه جذب وإخراج، وهذا أتم ما يكون من العلاج وأيسره وأسهله، وفيه تنبيه على أن علاج هذا الداء بالتبريد والجذب والإخراج والله أعلم.
وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله ! ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة فقال: (أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك).
واعلم أن الأدوية الطبيعية الإلهية تنفع من الداء بعد حصوله، وتمنع من وقوعه، وإن وقع لم يقع وقوعًا مضرًا، وإن كان مؤذيًا، والأدوية الطبيعية إنما تنفع، بعد حصول الداء، فالتعوذات والأذكار، إما أن تمنع وقوع هذه الأسباب، وإما أن تحول بينها وبين كمال تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه، فالرقى والعوذ تستعمل لحفظ الصحة، ولإزالة المرض، أما الأول: فكما في الصحيحين من حديث عائشة كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1]. والمعوذتين. ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يده من جسده.
وكما في حديث عوذة أبي الدرداء المرفوع (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم)، وقد تقدم وفيه: من قالها أول نهاره لم تصبه مصيبة حتى يمسي، ومن قالها آخر نهاره لم تصبه مصيبة حتى يصبح.
وكما في الصحيحين : (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه).
وكما في صحيح مسلم عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (من نزل منزلًا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك).
كما في سنن أبي داود أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في السفر يقول بالليل: (يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك، وشر ما يدب عليك، أعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والد وما ولد).
وأما الثاني: فكما تقدم من الرقية بالفاتحة، والرقية للعقرب وغيرها مما يأتي.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رقية النملة:
قد تقدم من حديث أنس الذي في صحيح مسلم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رخص في الرقية من الحمة والعين والنملة.
في سنن أبي داود عن الشفاء بنت عبد الله، دخل علي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا عند حفصة، فقال: (ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة).
النملة: قروح تخرج في الجنين، وهو داء معروف، وسمي نملة، لأن صاحبه يحس في مكانه كأن نملة تدب عليه وتعضه، وأصنافها ثلاثة، قال ابن قتيبة وغيره: كان المجوس يزعمون أن ولد الرجل من أخته إذا خط على النملة، شفى صاحبها، ومنه قول الشاعر:
ولا عيب فينا غير عرف لمعشر ** كرام وأنا لا نخط على النمل
وروى الخلال: أن الشفاء بنت عبد الله كانت ترقي في الجاهلية من النملة، فلما هاجرت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانت قد بايعته بمكة، قالت: يا رسول الله ! إني كنت أرقي في الجاهلية من النملة، وإني أريد أن أعرضها عليك، فعرضت عليه فقالت: بسم الله ضلت حتى تعود من أفواهها، ولا تضر أحدًا، اللهم اكشف البأس رب الناس، قال: ترقي بها على عود سبع مرات، وتقصد مكانًا نظيفًا، وتدلكه على حجر بخل خمر حاذق، وتطليه على النملة. وفي الحديث: دليل على جواز تعليم النساء الكتابة.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رقية الحية:
قد تقدم قوله: (لا رقية إلا في عين، أو حمة)، الحمة: بضم الحاء وفتح الميم وتخفيفها. وفي سنن ابن ماجه من حديث عائشة: رخص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الرقية من الحية والعقرب. ويذكر عن ابن شهاب الزهري قال: لدغ بعض أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حية، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (هل من راق؟ فقالوا: يا رسول الله ! إن آل حزم كانوا يرقون رقية الحية، فلما نهيت عن الرقى تركوها، فقال: ادعو عمارة بن حزم، فدعوه، فعرض عليه رقاه، فقال: لا بأس بها فأذن له فيها فرقاه).
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رقية القرحة والجرح:
أخرجا في الصحيحين عن عائشة قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا اشتكى الإنسان أو كانت به قرحة أو جرح، قال بأصبعه: هكذا ووضع سفيان سبابته بالأرض، ثم رفعها، وقال: (بسم الله، تربة أرضنا بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا بإذن ربنا).
هذا من العلاج الميسر النافع المركب، وهي معالجة لطيفة يعالج بها القروح والجراحات الطرية، لا سيما عند عدم غيرها من الأدوية إذ كانت موجودة بكل أرض، وقد علم أن طبيعة التراب الخالص بادرة يابسة مجففة لرطوبات القروح والجراحات التي تمنع الطبيعة من جودة فعلها، وسرعة اندمالها، لا سيما في البلاد الحارة، وأصحاب الأمزجة الحارة، فإن القروح والجراحات يتبعها في أكثر الأمر سوء مزاج حار، فيجتمع حرارة البلد والمزاج والجراح، وطبيعة التراب الخالص باردة يابسة أشد من برودة جميع الأدوية المفردة الباردة، فتقابل برودة التراب حرارة المرض، لا سيما إن كان التراب قد غسل وجفف، ويتبعها أيضًا كثرة الرطوبات الرديئة، والسيلان، والتراب مجفف لها، مزيل لشدة يبسه وتجفيفه للرطوبة الرديئة المانعة من برئها، ويحصل به ـ مع ذلك ـ تعديل مزاج العضو العليل، ومتى اعتدل مزاج العضو قويت قواه المدبرة، ودفعت عنه الألم بإذن الله.
ومعنى الحديث: أنه يأخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب، فيعلق بها منه شيء، فيمسح به على الجرح، ويقول هذا الكلام لما فيه من بركة ذكر اسم الله، وتفويض الأمر إليه، والتوكل عليه، فينضم أحد العلاجين إلى الآخر، فيقوى التأثير.
وهل المراد بقوله: تربة أرضنا جميع الأرض أو أرض المدينة خاصة؟ فيه قولان، ولا ريب أن من التربة ما تكون فيه خاصية ينفع بخاصيته من أدواء كثيرة، ويشفي به أسقامًا رديئة. قال جالينوس: رأيت بالإسكندرية مطحولين، ومستسقين، كثيرًا يستعملون طين مصر، ويطلون به على سوقهم، وأفخاذهم، وسواعدهم، وظهورهم، وأضلاعهم، فينتفعون به منفعة بينة. قال: وعلى هذا النحو فقد ينفع هذا الطلاء للأورام العفنة والمترهلة الرخوة، قال: وإني لأعرف قومًا ترهلت أبدانهم كلها من كثرة استفراغ الدم من أسفل، انتفعوا بهذا الطين نفعًا بينًا، وقومًا آخرين شفوا به أوجاعًا مزمنة كانت متمكنة في بعض الأعضاء تمكنًا شديدًا، فبرأت وذهبت أصلًا. وقال صاحب الكتاب المسيحي: قوة الطين المجلوب من كنوس ـ وهي جزيرة المصطكى ـ قوة تجلو وتغسل، وتنبت اللحم في القروح، وتختم القروح. انتهى.
وإذا كان هذا في هذه التربات، فما الظن بأطيب تربة على وجه الأرض وأبركها، وقد خالطت ريق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقارنت رقيته باسم ربه، وتفويض الأمر إليه، وقد تقدم أن قوى الرقية وتأثيرها بحسب الراقي، وانفعال المرقي عن رقيته، وهذا أمر لا ينكره طبيب فاضل عاقل مسلم، فإن انتفى أحد الأوصاف، فليقل ما شاء.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج الوجع بالرقية:
روى مسلم في صحيحه عن عثمان بن أبي العاص، أنه شكى إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعًا يجده في جسده منذ أسلم، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثًا، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) ففي هذا العلاج من ذكر الله، والتفويض إليه، والاستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم ما يذهب به، وتكراره ليكون أنجع وأبلغ، كتكرار الدواء لأخراج المادة، وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها، وفي الصحيحين : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعوذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى، ويقول: (اللهم رب الناس، أذهب الباس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا). ففي هذه الرقية توسل إلى الله بكمال ربوبيته، وكمال رحمته بالشفاء، وأنه وحده الشافى، وأنه لا شفاء إلا شفاؤه، فتضمنت التوسل إليه بتوحيده وإحسانه وربوبيته.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج حر المصيبة وحزنها:
قال تعالى: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 155]. وفي المسند عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، إلا أجاره الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها).
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته، فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته.
أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه، فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير، وأيضًا فإنه محفوف بعدمين: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير، وأيضًا فإنه ليس الذي أوجده عن عدمه، حتى يكون ملكه حقيقة، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده، ولا يبقي عليه وجوده، فليس له فيه تأثير، ولا ملك حقيقي، وأيضًا فإنه متصرف فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف الملاك، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.
والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فردًا كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله ونهايته، فكيف يفرح بموجود، أو يأسى على مفقود، ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء، ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} [الحديد: 22].
ومن علاجه أن ينظر إلى ما أصيب به، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله، أو أفضل منه، وادخر له ـ إن صبر ورضي ـ ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي.
ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد، ولينظر يمنة، فهل يرى إلا محنة؟ ثم ليعطف يسرة، فهل يرى إلا حسرة؟ ، وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن شرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل، إن أضحكت قليلًا، أبكت كثيرًا، وإن سرت يومًا، ساءت دهرًا، وإن متعت قليلًا، منعت طويلًا، وما ملأت دارًا خيرة إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور، قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: لكل فرحة ترحة، وما ملئ بيت فرحًا إلا ملئ ترحًا. وقال ابن سيرين: ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء.
وقالت هند بنت النعمان: لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكًا، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ونحن أقل الناس، وأنه حق على الله ألا يملأ دارًا خيرة إلا ملأها عبرة. وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها، فقالت: أصبحنا ذا صباح، وما في العرب أحد إلا يرجونا، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا. وبكت أختها حرقة بنت النعمان يومًا، وهي في عزها، فقيل لها: ما يبكيك، لعل أحدًا آذاك؟ قالت: لا، ولكن رأيت غضارة في أهلي، وقلما امتلأت دار سرورًا إلا امتلأت حزنًا.
قال إسحاق بن طلحة: دخلت عليها يومًا، فقلت لها: كيف رأيت عبرات الملوك؟ فقالت: ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه الأمس، إنا نجد في الكتب أنه ليس من أهل بيت يعيشون في خيرة إلا سيعقبون بعدها عبرة، وأن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه، ثم قالت:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ** إذا نحـن فيهم سوقة نتنصف
فـــأف لدنيـــا لا يـدوم نـعـيـمهـا ** تقلب تـارات بنـــا وتصـــرف
من علاجها أن يعلم أن الجزع لا يردها، بل يضاعفها، وهو في الحقيقة من تزايد المرض. من علاجها أن يعلم أن فوت ثواب الصبر والتسليم، وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر، والإسترجاع أعظم من المصيبة في الحقيقة.
ومن علاجها أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه، وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه، ورده خاسئًا، وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه، وعزاهم هو قبل أن يعزوه، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم، لا لطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بالويل والثبور، والسخط على المقدور.
ومن علاجها: أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه، ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه، فلينظر: أي المصيبتين أعظم؟ : مصيبة العاجلة، أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد. وفي الترمذي مرفوعًا: (يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء).
وقال بعض السلف: لو لا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس.
ومن علاجها: أن يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله، فإنه من كل شيء عوض إلا الله، فما منه عوض كما قيل:
من كل شيء إذا ضيعته عوض ** وما من الله إن ضيعته عوض
ومن علاجها: أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه له، فمن رضي، فله الرضى، ومن سخط، فله السخط، فحظك منها ما أحدثته لك، فاختر خير الحظوظ أو شرها، فإن أحدثت له سخطًا وكفرًا، كتب في ديوان الهالكين، وإن أحدثت له جزعًا وتفريطًا في ترك واجب، أو فعل محرم، كتب في ديوان المفرطين، وإن أحدثت له شكاية، وعدم صبر، كتب في ديوان المغبونين، وإن أحدثت له اعتراضًا على الله، وقدحًا في حكمته، فقد قرع باب الزندقة أو ولجه، وإن أحدثت له صبرًا وثباتًا لله، كتب في ديوان الصابرين، وإن أحدثت له الرضى عن الله، كتب في ديوان الراضين، وإن أحدثت له الحمد والشكر، كتب في ديوان الشاكرين، وكان تحت لواء الحمد مع الحمادين، وإن أحدثت له محبة واشتياقًا إلى لقاء ربه، كتب في ديوان المحبين المخلصين.
وفي مسند الإمام أحمد والترمذي، من حديث محمود بن لبيد يرفعه: (إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط). زاد أحمد: (ومن جزع فله الجزع).
ومن علاجها: أن يعلم أنه وإن بلغ في الجزع غايته، فآخر أمره إلى صبر الاضطرار، وهو غير محمود ولا مثاب، قال بعض الحكماء: العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام، سلا سلو البهائم. وفي الصحيح مرفوعًا: (الصبر عند الصدمة الأولى). وقال الأشعث بن قيس: إنك إن صبرت إيمانًا واحتسابًا، وإلا سلوت سلو البهائم.
ومن علاجها: أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له، وأن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب، فمن ادعى محبة محبوب، ثم سخط ما يحبه، وأحب ما يسخطه، فقد شهد على نفسه بكذبه، وتمقت إلى محبوبه.
وقال أبو الدرداء: أن الله إذا قضى قضاء، أحب أن يرضى به، وكان عمران بن حصين يقول في علته: أحبه إلي أحبه إليه، وكذلك قال أبو العالية.
وهذا دواء وعلاج لا يعمل إلا مع المحبين، ولا يمكن كل أحد أن يتعالج به.
ومن علاجها: أن يوازن بين أعظم اللذتين والمتعتين، وأدومهما: لذة تمتعه بما أصيب به، ولذة تمتعه بثواب الله له، فإن ظهر له الرجحان، فآثر الراجح، فليحمد الله على توفيقه، وإن آثر المرجوح من كل وجه، فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه أعظم من مصيبته التي أصيب بها في دنياه.
ومن علاجها أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به، ولا ليعذبه به، ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع تضرعه وابتهاله، وليراه طريحًا ببابه، لائذًا بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعًا قصص الشكوى إليه.
قال الشيخ عبد القادر: يا بني ! إن المصيبة ما جاءت لتهلكك، وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك، يا بني ! القدر سبع، والسبع لا يأكل الميتة.
والمقصود: أن المصيبة كير العبد الذي يسبك به حاصله، فإما أن يخرج ذهبًا أحمر، وإما أن يخرج خبثًا كله، كما قيل:
سبكناه ونحسبه لجينًا ** فأبدى الكير عن خبث الحديد
فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا، فبين يديه الكير الأعظم، فإذا علم العبد أن إدخاله كير الدنيا ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك، وأنه لا بد من أحد الكيرين، فليعلم قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل.
ومن علاجها: أن يعلم أنه لو لا محن الدنيا ومصائبها، لأصاب العبد ـ من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ـ ما هو سبب هلاكه عاجلًا وآجلًا، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب، تكون حمية له من هذه الأدواء، وحفظًا لصحة عبوديته، واستفراغًا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه، فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه كما قيل:
قد ينعم بالبلوى وإن عظمت ** ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
فلو لا أنه ـ سبحانه ـ يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء، لطغوا، وبغوا، وعتوا، والله ـ سبحانه ـ إذا أراد بعبد خيرًا سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرغ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه، أهله لأشرف مراتب الدنيا، وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة، وهو رؤيته وقربه.
ومن علاجها: أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة، يقلبها الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك، فإن خفي عليك هذا، فانظر إلى قول الصادق المصدوق: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات).
في هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق، وظهرت حقائق الرجال، فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول، ولم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد، ولا ذل ساعة لعز الأبد، ولا محنة ساعة لعافية الأبد، فإن الحاضر عنده شهادة، والمنتظر غيب، والإيمان ضعيف، وسلطان الشهوة حاكم، فتولد من ذلك إيثار العاجلة، ورفض الآخرة، وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور، وأوائلها ومبادئها، وأما النظر الثاقب الذي يخرق حجب العاجلة ، ويجاوزه إلى العواقب والغايات ، فله شأن آخر .
فادع نفسك إلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم، والسعادة الأبدية، والفوز الأكبر، وما أعد لأهل البطالة والإضاعة من الخزي والعقاب والحسرات الدائمة، ثم اختر أي القسمين أليق بك، وكل يعمل على شاكلته، وكل أحد يصبو إلى ما يناسبه، وما هو الأولى به، ولا تستطل هذا العلاج، فشدة الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه، وبالله التوفيق.
فصل: في هديه في علاج الحمى:
ثبت في الصحيحين: عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إنما الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء).
وقد أشكل هذا الحديث على كثير من جهلة الأطباء، ورأوه منافيًا لدواء الحمى وعلاجها، ونحن نبين بحول الله وقوته وجهه وفقهه، فنقول: خطاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نوعان: عام لأهل الأرض، وخاص ببعضهم، فالأول: كعامة خطابه، والثاني: كقوله: (لا تستقبلوا القبلة بغائط، ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا، أو غربوا) فهذا ليس بخطاب لأهل المشرق والمغرب ولا العراق، ولكن لأهل المدينة وما على سمتها، كالشام وغيرها. وكذلك قوله: (ما بين المشرق والمغرب قبلة).
وإذا عرف هذا، فخطابه في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز، وما والاهم، إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس، وهذه ينفعها الماء البارد شربًا واغتسالًا، فإن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب، وتنبث منه بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن، فتشتعل فيه اشتعالًا يضر بالأفعال الطبيعية، وهي تنقسم إلى قسمين: عرضية: وهي الحادثة إما عن الورم، أو الحركة، أو إصابة حرارة الشمس، أو القيظ الشديد ونحو ذلك.
ومرضية: وهي ثلاثة أنواع، وهي لا تكون إلا في مادة أولى، ثم منها يسخن جميع البدن. فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حمى يوم، لأنها في الغالب تزول في يوم، ونهايتها ثلاثة أيام، وإن كان مبدأ تعلقها بالأخلاط سميت عفنية، وهي أربعة أصناف: صفراوية، وسوداوية، وبلغمية، ودموية. وإن كان مبدأ تعلقها بالأعضاء الصلبة الأصلية، سميت حمى دق، وتحت هذه الأنواع أصناف كثيرة.
وقد ينتفع البدن بالحمى انتفاعًا عظيمًا لا يبلغه الدواء، وكثيرًا ما يكون حمى يوم، وحمى العفن سببًا لإنضاج مواد غليظة لم تكن تنضج بدونها، وسببًا لتفتح سدد لم يكن تصل إليها الأدوية المفتحة.
وأما الرمد الحديث والمتقادم، فإنها تبرئ أكثر أنواعه برءًا عجيبًا سريعًا، وتنفع من الفالج، واللقوة، والتشنج الامتلائي، وكثيرًا من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة.
وقال لي بعض فضلاء الأطباء: إن كثيرًا من الأمراض نستبشر فيها بالحمى، كما يستبشر المريض بالعافية، فتكون الحمى فيه أنفع من شرب الدواء بكثير، فإنها تنضج من الأخلاط والمواد الفاسدة ما يضر بالبدن، فإذا أنضجتها صادفها الدواء متهيئة للخروج بنضاجها، فأخرجها، فكانت سببًا للشفاء.
وإذا عرف هذا، فيجوز أن يكون مراد الحديث من أقسام الحميات العرضية، فإنها تسكن على المكان بالإنغماس في الماء البارد،وسقي الماء البارد المثلوج، ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر، فإنها مجرد كيفية حارة متعلقة بالروح، فيكفي في زوالها مجرد وصول كيفية باردة تسكنها، وتخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة، أو انتظار نضج.
ويجوز أن يراد به جميع أنواع الحميات، وقد اعترف فاضل الأطباء جالينوس: بأن الماء البارد ينفع فيها، قال في المقالة العاشرة من كتاب حيلة البرء : ولو أن رجلًا شابًا حسن اللحم، خصب البدن في وقت القيظ، وفي وقت منتهى الحمى، وليس في أحشائه ورم، استحم بماء بارد أو سبح فيه، لانتفع بذلك. قال: ونحن نأمر بذلك لا توقف.
وقال الرازي في كتابه الكبير: إذا كانت القوة قوية، والحمى، حادة جدًا، والنضج بين ولا ورم في الجوف، ولا فتق، ينفع الماء البارد شربًا، وإن كان العليل خصب البدن والزمان حار، وكان معتادًا لاستعمال الماء البارد من خارج، فليؤذن فيه.
وقوله: (الحمى من فيح جهنم)، هو شدة لهبها، وانتشارها، ونظيره: قوله: (شدة الحر من فيح جهنم) وفيه وجهان.
أحدهما: أن ذلك أنموذج ورقيقة اشتقت من جهنم ليستدل بها العباد عليها، ويعتبروا بها، ثم إن الله سبحانه قدر ظهورها بأسباب تقتضيها، كما أن الروح والفرح و السرور واللذة من نعيم الجنة أظهرها الله في هذه الدار عبرة ودلالة، وقدر ظهورها بأسباب توجبها.
والثاني: أن يكون المراد التشبيه، فشبه شدة الحمى ولهبها بفيح جهنم، وشبه شدة الحر به أيضًا تنبيهًا للنفوس على شدة عذاب النار، وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهة بفيحها، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها.
وقوله: فأبردوها، روي بوجهين: بقطع الهمزة وفتحها، رباعي: من أبرد الشيء: إذا صيره باردًا، مثل أسخنه: إذا صيره سخنًا.
والثاني: بهمزة الوصل مضمومة من برد الشيء يبرده، وهو أفصح لغة واستعمالًا، والرباعي لغة رديئة عندهم قال:
إذا وجدت لهيب الحب في كبدي ** أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظـاهره ** فمن لنار علي الأحشاء تتقد
وقوله: بالماء، فيه قولان. أحدهما: أنه كل ماء وهو الصحيح. والثاني: أنه ماء زمزم، واحتج أصحاب هذا القول بما رواه البخاري في صحيحه عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي، قال: كنت أجالس ابن عباس بمكة، فأخذتني الحمى، فقال: أبردها عنك بماء زمزم، فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء، أو قال: بماء زمزم). وراوي هذا قد شك فيه، ولو جزم به لكان أمرًا لأهل مكة بماء زمزم، إذ هو متيسر عندهم، ولغيرهم بما عندهم من الماء.
ثم اختلف من قال: إنه على عمومه، هل المراد به الصدقة بالماء، أو استعماله؟ على قولين. والصحيح أنه استعمال، وأظن أن الذي حمل من قال: المراد الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمى، ولم يفهم وجهه مع أن لقوله وجهًا حسنًا، وهو أن الجزاء من جنس العمل، فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد، أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاء وفاقًا، ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته، وأما المراد به فاستعماله.
وقد ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنس يرفعه: (إذا حم أحدكم، فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر).
وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة يرفعه: (الحمى كير من كير جهنم، فنحوها عنكم بالماء البارد).
وفي المسند وغيره، من حديث الحسن، عن سمرة يرفعه: (الحمى قطعة من النار، فأبردوها عنكم بالماء البارد)، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا حم دعا بقربة من ماء، فأفرغها على رأسه فاغتسل.
وفي السنن: من حديث أبي هريرة قال: ذكرت الحمى عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسبها رجل، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لا تسبها فإنها تنفي الذنوب، كما تنفي النار خبث الحديد).
لما كانت الحمى يتبعها حمية عن الأغذية الرديئة، وتناول الأغذية والأدوية النافعة، وفي ذلك إعانة على تنقية البدن، ونفي أخباثه وفضوله، وتصفيته من مواده الرديئة، وتفعل فيه كما تفعل النار في الحديد في نفي خبثه، وتصفية جوهره، كانت أشبه الأشياء بنار الكير التي تصفي جوهر الحديد، وهذا القدر هو المعلوم عند أطباء الأبدان.
وأما تصفيتها القلب من وسخه ودرنه، وإخراجها خبائثه، فأمر يعلمه أطباء القلوب، ويجدونه كما أخبرهم به نبيهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكن مرض القلب إذا صار مأيوسًا من برئه، لم ينفع فيه هذا العلاج.
فالحمى تنفع البدن والقلب، وما كان بهذه المثابة فسبه ظلم وعدوان، وذكرت مرة وأنا محموم قول بعض الشعراء يسبها:
زارت مكفرة الذنــوب وودعــت ** تبــًا لهــا مــن زائــر ومودع
قالت وقد عزمت على ترحالهـــا ** ماذا تريد فقلت أن لا تـــــرجعي
فقلت: تبًا له إذ سب ما نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن سبه، ولو قال:
زارت مكفــــرة الذنوب لصبهــا ** أهلًا بهـــا مــــن زائر ومودع
قالت وقد عزمت على ترحالها ** ماذا تريد فقلت: أن لا تقــــــــلعي
لكان أولى به، ولأقلعت عنه، فأقلعت عني سريعًا. وقد روي في أثر لا أعرف حاله حمى يوم كفارة سنة، وفيه قولان أحدهما: أن الحمى تدخل في كل الأعضاء والمفاصل، وعدتها ثلاثمائة وستون مفصلًا، فتكفر عنه ـ بعدد كل مفصل ـ ذنوب يوم. والثاني: أنها تؤثر في البدن تأثيرًا لا يزول بالكلية إلى سنة، كما قيل في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يومًا): إن أثر الخمر يبقى في جوف العبد، وعروقه، وأعضائه أربعين يومًا والله أعلم.
قال أبو هريرة: ما من مرض يصيبني أحب إلي من الحمى، لأنها تدخل في كل عضو مني، وإن الله سبحانه يعطي كل عضو حظه من الأجر.
وقد روى الترمذي في جامعه من حديث رافع بن خديج يرفعه: (إذا أصابت أحدكم الحمى ـ وإن الحمى قطعة من النار ـ فليطفئها بالماء البارد ويستقبل نهرًا جاريًا، فليستقبل جرية الماء بعد الفجر وقبل طلوع الشمس، وليقل: بسم الله اللهم اشف عبدك، وصدق رسولك، وينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام، فان برئ، والإ ففى خمس، فإن لم يبرأ في خمس، فسبع، فإن لم يبرأ في سبع فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعًا بإذن الله).
قلت: وهو ينفع فعله في فصل الصيف في البلاد الحارة على الشرائط التي تقدمت، فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة الشمس، ووفور القوى في ذلك الوقت لما أفادها النوم، والسكون، وبرد الهواء، فتجتمع فيه قوة القوى، وقوة الدواء، وهو الماء البارد على حرارة الحمى العرضية، أو الغب الخالصة، أعني التي لا ورم معها، ولا شيء من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة، فيطفئها بإذن الله، لا سيما في أحد الأيام المذكورة في الحديث، وهي الأيام التي يقع فيها بحران الأمراض الحادة كثيرًا، سيما في البلاد المذكورة لرقة أخلاط سكانها، وسرعة انفعالهم عن الدواء النافع.
فصل: في هديه في علاج استطلاق البطن:
في الصحيحين: من حديث أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري (أن رجلًا أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: إن أخي يشتكي بطنه: وفي رواية: استطلق بطنه، فقال: اسقه عسلًا، فذهب ثم رجع، فقال: قد سقيته، فلم يغن عنه شيئًا. وفي لفظ: فلم يزده إلا استطلاقًا مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يقول له: اسقه عسلًا، فقال له في الثالثة أو الرابعة: صدق الله، وكذب بطن أخيك).
وفي صحيح مسلم في لفظ له: (إن أخي عرب بطنه)، أي فسد هضمه، واعتلت معدته، والاسم العرب بفتح الراء، والذرب أيضًا.
والعسل فيه منافع عظيمة، فإنه جلاء للأوساخ التي في العروق والأمعاء وغيرها، محلل للرطوبات أكلًا وطلاءً، نافع للمشايخ وأصحاب البلغم، ومن كان مزاجه باردًا رطبًا، وهو مغذ ملين للطبيعة، حافظ لقوى المعاجين ولما استودع فيه، مذهب لكيفيات الأدوية الكريهة، منق للكبد والصدر، مدر للبول، موافق للسعال الكائن عن البلغم، وإذا شرب حارًا بدهن الورد، نفع من نهش الهوام وشرب الأفيون، وإن شرب وحده ممزوجًا بماء نفع من عضة الكلب الكلب، وأكل الفطر القتال، وإذا جعل فيه اللحم الطري، حفظ طراوته ثلاثة أشهر، وكذلك إن جعل فيه القثاء، والخيار، والقرع، والباذنجان، ويحفظ كثيرًا من الفاكهة ستة أشهر، ويحفظ جثة الموتى، ويسمى الحافظ الأمين. وإذا لطخ به البدن المقمل والشعر، قتل قمله وصئبانه، وطول الشعر، وحسنه، ونعمه، وإن اكتحل به، جلا ظلمة البصر، وإن استن به، بيض الأسنان وصقلها، وحفظ صحتها، وصحة اللثة، ويفتح أفواه العروق، ويدر الطمث، ولعقه على الريق يذهب البلغم، ويغسل خمل المعدة، ويدفع الفضلات عنها، ويسخنها تسخينًا معتدلًا، ويفتح سددها، ويفعل ذلك بالكبد والكلى والمثانة، وهو أقل ضررًا لسدد الكبد والطحال من كل حلو. وهو مع هذا كله مأمون الغائلة، قليل المضار، مضر بالعرض للصفراويين، ودفعها بالخل ونحوه، فيعود حينئذ نافعًا له جدًا.
وهو غذاء مع الأغذية، ودواء مع الأدوية، وشراب مع الأشربة، وحلو مع الحلوى، وطلاء مع الأطلية، ومفرح مع المفرحات، فما خلق لنا شيء فى في معناه أفضل منه، ولا مثله، ولا قريبًا منه، ولم يكن معول القدماء إلا عليه، وأكثر كتب القدماء لا ذكر فيها للسكر البتة، ولا يعرفونه، فإنه حديث العهد حدث قريبًا، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يشربه بالماء على الريق، وفي ذلك سر بديع في حفظ الصحة لا يدركه إلا الفطن الفاضل، وسنذكر ذلك إن شاء الله عند ذكر هديه في حفظ الصحة.
وفي سنن ابن ماجه مرفوعًا من حديث أبي هريرة (من لعق العسل ثلاث غدوات كل شهر، لم يصبه عظيم من البلاء)، وفي أثر آخر: (عليكم بالشفائين: العسل والقرآن). فجمع بين الطب البشري والإلهي، وبين طب الأبدان، وطب الأرواح، وبين الدواء الأرضي والدواء السمائي.
إذا عرف هذا، فهذا الذي وصف له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ العسل، كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته عن امتلاء، فأمره بشرب العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء، فإن العسل فيه جلاء، ودفع للفضول، وكان قد أصاب المعدة أخلاط لزجة، تمنع استقرار الغذاء فيها للزوجتها، فإن المعدة لها خمل كخمل القطيفة، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة، أفسدتها وأفسدت الغذاء، فدواؤها بما يجلوها من تلك الأخلاط، والعسل جلاء، والعسل من أحسن ما عولج به هذا الداء، لا سيما إن مزج بالماء الحار.
وفي تكرار سقيه العسل معنى طبي بديع، وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار، وكمية بحسب حال الداء، إن قصر عنه، لم يزله بالكلية، وإن جاوزه. أوهى القوى، فأحدث ضررًا آخر، فلما أمره أن يسقيه العسل، سقاه مقدارًا لا يفي بمقاومة الداء، ولا يبلغ الغرض، فلما أخبره، علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة، فلما تكرر ترداده إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء، برأ، بإذن الله، واعتبار مقادير الأدوية، وكيفياتها، ومقدار قوة المرض مرض من أكبر قواعد الطب.
وفي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (صدق الله وكذب بطن أخيك)، إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه، ولكن لكذب البطن، و كثرة المادة الفاسدة فيه، فأمره بتكرار الدواء لكثرة المادة.
وليس طبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كطب الأطباء، فإن طب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ متيقن قطعي إلهي، صادر عن الوحي، ومشكاة النبوة، وكمال العقل. وطب غيره، أكثره حدس وظنون، وتجارب، ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول، واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان، فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور ـ إن لم يتلق هذا التلقي ـ لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها، بل لا يزيد المنافقين إلا رجسًا إلى رجسهم، ومرضًا إلى مرضهم، وأين يقع طب الأبدان منه، فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطبية، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطبية والقلوب الحية، فإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن طب الإستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع، وليس ذلك لقصور فى الدواء، ولكن لخبث الطبيعة، وفساد المحل، وعدم قبوله، والله الموفق.
فصل: في هديه في داء الاستسقاء وعلاجه:
في الصحيحين : من حديث أنس بن مالك، قال: قدم رهط من عرينة وعكل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاجتووا المدينة، فشكوا ذلك إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: (لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فلما صحوا، عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم، واستاقوا الإبل، وحاربو الله ورسوله، فبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في آثارهم، فأخذوا، فقطع أيديهم، وأرجلهم، وسمل أعينهم، وألقاهم في الشمس حتى ماتوا).
والدليل على أن هذا المرض كان الإستسقاء، ما رواه مسلم في صحيحه في هذا الحديث أنهم قالوا: إنا اجتوينا المدينة، فعظمت بطوننا، وارتهشت أعضاؤنا، وذكر تمام الحديث...
الجوى: داء من أدواء الجوف ـ والاستسقاء: مرض مادي سببه مادة غريبة باردة تتخلل الأعضاء فتربو لها إما الأعضاء الظاهرة كلها، وإما المواضع الخالية من النواحي التي فيها تدبير الغذاء والأخلاط، وأقسامه ثلاثة: لحمي، وهو أصعبها. وزقي، وطبلي. لما كانت الأدوية المحتاج إليها فى علاجه هي الأدوية الجالبة التي فيها إطلاق معتدل، وإدرار بحسب الحاجة، وهذه الأمور موجودة في أبوال الإبل وألبانها، أمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشربها، فإن في لبن اللقاح جلاءً وتليينًا، وإدرارًا وتلطيفًا، وتفتيحًا للسدد، إذ كان أكثر رعيها الشيح، والقيصوم، والبابونج، والأقحوان، والإذخر، وغير ذلك من الأدوية النافعة للإستسقاء.
هذا المرض لا يكون إلا مع آفة في الكبد خاصة، أو مع مشاركة، وأكثرها عن السدد فيها، ولبن اللقاح العربية نافع من السدد، لما فيه من التفتيح، والمنافع المذكورة.
قال الرازي: لبن اللقاح يشفي أوجاع الكبد، وفساد المزاج، وقال الإسرائيلي: لبن اللقاح أرق الألبان، وأكثرها مائية وحدة، وأقلها غذاء، فلذلك صار أقواها على تلطيف الفضول، وإطلاق البطن، وتفتيح السدد، ويدل على ذلك ملوحته اليسيرة التي فيه لإفراط حرارة حيوانية بالطبع، ولذلك صار أخص الألبان بتطرية الكبد، وتفتيح سددها، وتحليل صلابة الطحال إذا كان حديثًا، والنفع من الاستسقاء خاصة إذا استعمل لحرارته التي يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل، وهو حار كما يخرج من الحيوان، فإن ذلك مما يزيد في ملوحته، وتقطيعه الفضول، وإطلاقه البطن، فإن تعذر انحداره وإطلاقه البطن، وجب أن يطلق بدواء مسهل.
قال صاحب القانون: ولا يلتفت إلى ما يقال: من أن طبيعة اللبن مضادة لعلاج الإستسقاء. قال: واعلم أن لبن النوق دواء نافع لما فيه من الجلاء برفق، وما فيه من خاصية، وأن هذا اللبن شديد المنفعة، فلو أن إنسانًا أقام عليه بدل الماء والطعام شفي به، وقد جرب ذلك في قوم دفعوا إلى بلاد العرب، فقادتهم الضرورة إلى ذلك، فعوفوا. وأنفع الأبوال: بول الجمل الأعرابي، وهو النجيب، انتهى.
وفي القصة: دليل على التداوي والتطبب، وعلى طهارة بول مأكول اللحم، فإن التداوي بالمحرمات غير جائز، ولم يؤمروا مع قرب عهدهم بالإسلام بغسل أفواههم، وما أصابته ثيابهم من أبوالها للصلاة، وتأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة.
وعلى مقاتلة الجاني بمثل ما فعل، فإن هؤلاء قتلوا الراعي، وسملوا عينيه، ثبت ذلك في صحيح مسلم . على قتل الجماعة، وأخذ أطرافهم بالواحد.
وعلى أنه إذا اجتمع في حق الجاني حد وقصاص استوفيا معًا، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قطع أيديهم وأرجلهم حدًا لله على حرابهم، وقتلهم لقتلهم الراعي.
وعلى أن المحارب إذا أخذ المال، وقتل، قطعت يده ورجله في مقام واحد وقتل.
وعلى أن الجنايات إذا تعددت، تغلظت عقوباتها، فإن هؤلاء ارتدوا بعد إسلامهم، وقتلوا النفس، ومثلوا بالمقتول، وأخذوا المال، وجاهروا بالمحاربة.
وعلى أن حكم ردء المحاربين حكم مباشرهم، فإنه من المعلوم أن كل واحد منهم لم يباشر القتل بنفسه، ولا سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك.
وعلى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدًا، فلا يسقطه العفو، ولا تعتبر فيه المكافأة، وهذا مذهب أهل المدينة، وأحد الوجهين فى مذهب أحمد، اختاره شيخنا، وأفتى به.
فصل: في هديه في العلاج بشرب العسل، والحجامة، والكي:
في صحيح البخاري: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي).
قال أبو عبد الله المازري: الأمراض الامتلائية: إما أن تكون دموية، أو صفراوية، أو بلغمية، أو سوداوية. فإن كانت دموية، فشفاؤها إخراج الدم، وإن كانت من الأقسام الثلاثة الباقية، فشفاؤها بالإسهال الذي يليق بكل خلط منها، وكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعسل على المسهلات، وبالحجامة على الفصد، وقد قال بعض الناس: إن الفصد يدخل في قوله: شرطة محجم. فإذا أعيا الدواء، فآخر الطب الكي، فذكره ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأدوية، لأنه يستعمل عند غلبة الطباع لقوى الأدوية، وحيث لا ينفع الدواء المشروب. وقوله: وأنا أنهى أمتي عن الكي، وفي الحديث الآخر: وما أحب أن أكتوي، إشارة إلى أن يؤخر العلاج به حتى تدفع الضرورة إليه، ولا يعجل التداوي به لما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي، انتهى كلامه.
وقال بعض الأطباء: الأمراض المزاجية: إما أن تكون بمادة، أو بغير مادة، والمادية منها: إما حارة، أو باردة، أو رطبة، أو يابسة، أو ما تركب منها، وهذه الكيفيات الأربع، منها كيفيتان فاعلتان: وهما الحرارة والبرودة، وكيفيتان منفعلتان، وهما الرطوبة واليبوسة، ويلزم من غلبة إحدى الكيفيتين الفاعلتين استصحاب كيفية منفعلة معها، وكذلك كان لكل واحد من الأخلاط الموجودة في البدن، وسائر المركبات كيفيتان: فاعلة ومنفعلة.
فحصل من ذلك أن أصل الأمراض المزاجية هي التابعة لأقوى كيفيات الأخلاط التي هي الحرارة والبرودة، فجاء كلام النبوة في أصل معالجة الأمراض التي هي الحارة والباردة على طريق التمثيل، فإن كان المرض حارًا، عالجناه بإخراج الدم، بالفصد كان أو بالحجامة، لأن في ذلك استفراغًا للمادة، وتبريدًا للمزاج. وإن كان باردًا عالجناه بالتسخين، وذلك موجود في العسل، فإن كان يحتاج مع ذلك إلى استفراغ المادة الباردة، فالعسل أيضًا يفعل في ذلك لما فيه من الإنضاج، والتقطيع، والتلطيف، والجلاء، والتليين، فيحصل بذلك استفراغ تلك المادة برفق وأمن من نكاية المسهلات القوية.
وأما الكي: فلأن كل واحد من الأمراض المادية، إما أن يكون حادًا فيكون سريع الإفضاء لأحد الطرفين، فلا يحتاج إليه فيه، وإما أن يكون مزمنًا، وأفضل علاجه بعد الإستفراغ الكي في الأعضاء التي يجوز فيها الكي، لأنه لا يكون مزمنًا إلا عن مادة باردة غليظة قد رسخت في العضو، وأفسدت مزاجه، وأحالت جميع ما يصل إليه إلى مشابهة جوهرها، فيشتعل في ذلك العضو، فيستخرج بالكي تلك المادة من ذلك المكان الذي هو فيه بإفناء الجزء الناري الموجود بالكي لتلك المادة.
فتعلمنا بهذا الحديث الشريف أخذ معالجة الأمراض المادية جميعها، كما استنبطنا معالجة الأمراض الساذجة من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إن شدة الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء).
فصل: الحجامة:
ففي سنن ابن ماجه من حديث جبارة بن المغلس، ـ وهو ضعيف ـ عن كثير بن سليم، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ما مررت ليلة أسري بي بملإ إلا قالوا: يا محمد مر أمتك بالحجامة).
وروى الترمذي في جامعه من حديث ابن عباس هذا الحديث: وقال فيه: (عليك بالحجامة يا محمد).
وفي الصحيحين: من حديث طاووس، عن ابن عباس، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (احتجم وأعطى الحجام أجره).
وفي الصحيحين أيضًا، عن حميد الطويل، عن أنس، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاعين من طعام، وكلم مواليه، فخففوا عنه من ضريبته، وقال: (خير ما تداويتم به الحجامة).
وفي جامع الترمذي عن عباد بن منصور، قال: سمعت عكرمة يقول: كان لابن عباس غلمة ثلاثة حجامون، فكان اثنان يغلان عليه، وعلى أهله، وواحد لحجمه، وحجم أهله. قال: وقال ابن عباس: قال نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نعم العبد الحجام يذهب بالدم، ويخف الصلب، ويجلو البصر)، وقال: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث عرج به، ما مر على ملإ من الملائكه إلا قالوا: (عليك بالحجامة)، وقال: (إن خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة، ويوم تسع عشرة، ويوم إحدى وعشرين)، وقال: (إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي)، وإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لد فقال: (من لدني؟ فكلهم أمسكوا، فقال: لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا العباس). قال: هذا حديث غريب، ورواه ابن ماجه.
منافع الحجامة
فإنها تنقي سطح البدن أكثر من الفصد، والفصد لأعماق البدن أفضل، والحجامة تستخرج الدم من نواحي الجلد.
قلت: والتحقيق في أمرها وأمر الفصد، أنهما يختلفان باختلاف الزمان، والمكان، والأسنان، والأمزجة، فالبلاد الحارة، والأزمنة الحارة، والأمزجة الحارة التي دم أصحابها في غاية النضج الحجامة فيها أنفع من الفصد بكثير، فإن الدم ينضج ويرق ويخرج إلى سطح الجسد الداخل، فتخرج الحجامة ما لا يخرجه الفصد، ولذلك كانت أنفع للصبيان من الفصد، ولمن لا يقوى على الفصد، وقد نص الأطباء على أن البلاد الحارة الحجامة فيها أنفع وأفضل من الفصد، وتستحب في وسط الشهر، وبعد وسطه. وبالجملة، في الربع الثالث من أرباع الشهر، لأن الدم في أول الشهر لم يكن بعد قد هاج وتبيغ، وفي آخره يكون قد سكن. وأما في وسطه وبعيده، فيكون في نهاية التزيد.
قال صاحب القانون: ويؤمر باستعمال الحجامة لا في أول الشهر، لأن الأخلاط لا تكون قد تحركت وهاجت، ولا في آخره لأنها تكون قد نقصت، بل في وسط الشهر حين تكون الأخلاط هائجة بالغة في تزايدها لتزيد النور في جرم القمر. وقد روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (خير ما تداويتم به الحجامة والفصد). وفي حديث: (خير الدواء الحجامة والفصد). انتهى.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (خير ما تداويتم به الحجامة) إشارة إلى أهل الحجاز، والبلاد الحارة، لأن دماءهم رقيقة، وهي أميل الى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح الجسد، واجتماعها في نواحي الجلد، ولأن مسام أبدانهم واسعة، وقواهم متخلخلة، ففي الفصد لهم خطر، والحجامة تفرق اتصالي إرادي يتبعه استفراغ كلي من العروق، وخاصة العروق التي لا تفصد كثيرًا، ولفصد كل واحد منها نفع خاص، ففصد الباسليق: ينفع من حرارة الكبد والطحال والأورام الكائنة فيهما من الدم، وينفع من أورام الرئة، وينفع من الشوصة وذات الجنب وجميع الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الورك.
وفصد الأكحل: ينفع من الإمتلاء العارض في جميع البدن إذا كان دمويًا، وكذلك إذا كان الدم قد فسد في جميع البدن.
وفصد القيفال: ينفع من العلل العارضة في الرأس والرقبة من كثرة الدم أو فساده.
وفصد الودجين: ينفع من وجع الطحال، والربو، والبهر، ووجع الجبين.
والحجامة على الكاهل: تنفع من وجع المنكب والحلق.
والحجامة على الأخدعين، تنفع من أمراض الرأس، وأجزائه، كالوجه، والأسنان، والأذنين، والعينين، والأنف، والحلق إذا كان حدوث ذلك عن كثرة الدم أو فساده، أو عنهما جميعًا. قال أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحتجم في الأخدعين والكاهل.
وفي الصحيحين عنه: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحتجم ثلاثًا: واحدة على كاهله، واثنتين على الأخدعين.
وفي الصحيح: عنه، أنه احتجم وهو محرم في رأسه لصداع كان به.
وفي سنن ابن ماجه عن علي، نزل جبريل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحجامة الأخدعين والكاهل.
وفي سنن أبي داود من حديث جابر، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (احتجم في وركه من وثء كان به).
فصل: واختلف الأطباء فى الحجامة
على نقرة القفا، وهى القمحدوة.
وذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي حديثًا مرفوعًا (عليكم بالحجامة في جوزة القمحدوة، فإنها تشفي من خمسة أدواء)، ذكر منها الجذام.
وفي حديث آخر: (عليكم بالحجامة في جوزة القمحدوة، فإنها شفاء من اثنين وسبعين داء).
فطائفة منهم استحسنته وقالت: إنها تنفع من جحظ العين، والنتوء العارض فيها، وكثير من أمراضها، ومن ثقل الحاجبين والجفن، وتنفع من جربه. وروي أن أحمد بن حنبل احتاج إليها، فاحتجم في جانبي قفاه، ولم يحتجم في النقرة، وممن كرهها صاحب القانون وقال: إنها تورث النسيان حقًا، كما قال سيدنا ومولانا وصاحب شريعتنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن مؤخر الدماغ موضع الحفط، والحجامة تذهبه، انتهى كلامه.
ورد عليه آخرون، وقالوا: الحديث لا يثبت، وإن ثبث فالحجامة، إنما تضعف مؤخر الدماغ إذا استعملت لغير ضرورة، فأما إذا استعملت لغلبة الدم عليه، فإنها نافعة له طبًا وشرعًا، فقد ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه احتجم في عدة أماكن من قفاه بحسب ما اقتضاه الحال في ذلك، واحتجم في غير القفا بحسب ما دعت إليه حاجته.
الحجامة تحت الذقن تنفع من وجع الأسنان والوجه والحلقوم، إذا استعملت في وقتها، وتنقي الرأس والفكين، والحجامة على ظهر القدم تنوب عن فصد الصافن، وهو عرق عظيم عند الكعب، وتنفع من قروح الفخذين والساقين، وانقطاع الطمث، والحكة العارضة في الإنثيين، والحجامة في أسفل الصدر نافعة من دماميل الفخذ، وجربه وبثوره، ومن النقرس والبواسير، والفيل وحكة الظهر.
أوقات الحجامة
روى الترمذي في جامعه: من حديث ابن عباس يرفعه: (إن خير ما تحتجمون في يوم سابع عشرة، أو تاسع عشرة، ويوم إحدى وعشرين).
وفيه (عن أنس كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحتجم في الأخدعين والكاهل، وكان يحتجم لسبعة عشر، وتسعة عشر، وفي إحدى وعشرين).
وفي سنن ابن ماجه عن أنس مرفوعًا: (من أراد الحجامة فليتحر سبعة عشر، أو تسعة عشر، أو إحدى وعشرين، لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله).
وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (من احتجم لسبع عشرة، أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين، كانت شفاء من كل داء)، وهذا معناه من كل داء سببه غلبة الدم.
وهذه الأحاديث موافقة لما أجمع عليه الأطباء، أن الحجامة في النصف الثاني، وما يليه من الربع الثالث من أرباعه أنفع من أوله وآخره، وإذا استعملت عند الحاجة إليها نفعت أي وقت كان من أول الشهر وآخره.
قال الخلال: أخبرني عصمة بن عصام، قال: حدثنا حنبل، قال: كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل يحتجم أي وقت هاج به الدم، وأي ساعة كانت.
وقال صاحب القانون: أوقاتها في النهار: الساعة الثانية أو الثالثة، ويجب توقيها بعد الحمام إلا فيمن دمه غليط، فيجب أن يستحم، ثم يستجم ساعة، ثم يحتجم، انتهى.
وتكره عندهم الحجامة على الشبع، فإنها ربما أورثت سددًا وأمراضًا رديئة، لا سيما إذا كان الغذاء رديئًا غليظًا. وفي أثر: (الحجامة على الريق دواء، وعلى الشبع داء، وفي سبعة عشر من الشهر شفاء).
واختيار هذه الأوقات للحجامة، فيما إذا كانت على سبيل الإحتياط والتحرز من الأذى، وحفظًا للصحة. وأما في مداواة الأمراض، فحيثما وجد الاحتياح إليها وجب استعمالها. وفي قوله: (لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله). دلالة على ذلك، يعني لئلا يتبيغ، فحذف حرف الجر مع (أن)، ثم حذفت (أن). والتبيغ: الهيج، وهو مقلوب البغي، وهو بمعناه، فإنه بغي الدم وهيجانه. وقد تقدم أن الإمام أحمد كان يحتجم أي وقت احتاج من الشهر.
اختيار أيام الأسبوع للحجامة
فقال الخلال في جامعه: أخبرنا حرب بن إسماعيل، قال: قلت لأحمد: تكره الحجامة في شيء من الأيام؟ قال: قد جاء في الأربعاء والسبت.
وفيه: عن الحسين بن حسان، أنه سأل أبا عبد الله عن الحجامة: أي يوم تكره؟ فقال: في يوم السبت، ويوم الأربعاء، ويقولون: يوم الجمعة.
وروى الخلال، عن أبي سلمة وأبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة مرفوعًا: (من احتجم يوم الأربعاء أو يوم السبت، فأصابه بياض أو برص، فلا يلومن إلا نفسه).
وقال الخلال: أخبرنا محمد بن علي بن جعفر، أن يعقوب بن بختان حدثهم، قال: سئل أحمد عن النورة والحجامة يوم السبت ويوم الأربعاء؟ فكرهها. وقال: بلغني عن رجل أنه تنور، واحتجم يعني يوم الأربعاء، فأصابه البرص. قلت له: كأنه تهاون بالحديث؟ قال: نعم.
وفي كتاب الأفراد للدارقطني، من حديث نافع قال: قال لي عبد الله بن عمر: تبيغ بي الدم، فابغ لي حجامًا، ولا يكن صبيًا ولا شيخًا كببرًا، فإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (الحجامة تزيد الحافظ حفظًا، والعاقل عقلًا، فاحتجموا على اسم الله تعالى، ولا تحتجموا الخميس، والجمعة، والسبت، والأحد، واحتجموا الإثنين، وما كان من جذام ولا برص، إلا نزل يوم الأربعاء). قال الدارقطني: تفرد به زياد بن يحيى، وقد رواه أيوب عن نافع، وقال فيه: (واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء، ولا تحتجموا يوم الأربعاء).
وقد روى أبو داود في سننه من حديث أبي بكرة، أنه كان يكره الحجامة يوم الثلاثاء، وقال: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا يرقأ فيها الدم).
وفي ضمن هذه الأحاديث المتقدمة استحباب التداوي واستحباب الحجامة، وأنها تكون في الموضع الذي يقتضيه الحال، وجواز احتجام المحرم، وإن آل إلى قطع شيء من الشعر، فإن ذلك جائز. وفي وجوب الفدية عليه نظر، ولا يقوى الوجوب، وجواز احتجام الصائم، فإن في صحيح البخاري أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (احتجم وهو صائم). ولكن هل يفطر بذلك، أم لا؟ مسألة أخرى، الصواب: الفطر بالحجامة، لصحته عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير معارض، وأصح ما يعارض به حديث حجامته وهو صائم، ولكن لا يدل على عدم الفطر إلا بعد أربعة أمور. أحدها: أن الصوم كان فرضًا. الثاني: أنه كان مقيمًا. الثالث: أنه لم يكن به مرض احتاج معه إلى الحجامة. الرابع: أن هذا الحديث متأخر عن قوله: (أفطر الحاجم والمحجوم).
فإذا ثبتت هذه المقدمات الأربع، أمكن الإستدلال بفعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على بقاء الصوم مع الحجامة، وإلا فما المانع أن يكون الصوم نفلًا يجوز الخروج منه بالحجامة وغيرها، أو من رمضان لكنه في السفر، أو من رمضان في الحضر، لكن دعت الحاجة إليها كما تدعو حاجة من به مرض إلى الفطر، أو يكون فرضًا من رمضان في الحضر من غير حاجة إليها، لكنه مبقى على الأصل. وقوله: (أفطر الحاجم والمحجوم)، ناقل ومتأخر، فيتعين المصير إليه، ولا سبيل إلى إثبات واحدة من هذه المقدمات الأربع، فكيف بإثباتها كلها.
وفيها دليل على استئجار الطبيب وغيره من غير عقد إجازة، بل يعطيه أجرة المثل، أو ما يرضيه.
وفيها دليل على جواز التكسب بصناعة الحجامة، وإن كان لا يطيب للحر أكل أجرته من غير تحريم عليه، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطاه أجره، ولم يمنعه من أكله، وتسميته إياه خبيثًا كتسميته للثوم والبصل خبيثين، ولم يلزم من ذلك تحريمهما.
وفيها دليل على جواز ضرب الرجل الخراج على عبده كل يوم شيئًا معلومًا بقدر طاقته، وأن العبد أن يتصرف فيما زاد على خراجه، ولو منع من التصرف، لكان كسبه كله خراجًا ولم يكن لتقديره فائدة، بل ما زاد على خراجه، فهو تمليك من سيده له يتصرف فيه كما أراد، والله أعلم.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قطع العروق والكي:
ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا، فقطع له عرقًا وكواه عليه. ولما رمي سعد بن معاذ في أكحله حسمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم ورمت، فحسمه الثانية. والحسم: هو الكي.
وفي طريق آخر: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كوى سعد بن معاذ في أكحله بمشقص، ثم حسمه سعد بن معاذ أو غيره من أصحابه.
وفي لفظ آخر: أن رجلًا من الأنصار رمي في أكحله بمشقص، فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به فكوي.
وقال أبو عبيد: وقد أتي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ برجل نعت له الكي، فقال: (اكووه وارضفوه). قال أبو عبيد: الرضف: الحجارة تسخن، ثم يكمد بها.
وقال الفضل بن دكين: حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كواه في أكحله.
وفي صحيح البخاري من حديث أنس، أنه كوي من ذات الجنب والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حي.
وفي الترمذي، عن أنس، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كوى أسعد بن زرارة من الشوكة)، وقد تقدم الحديث المتفق عليه وفيه (وما أحب أن أكتوي) وفي لفظ آخر: (وأنا أنهى أمتي عن الكي).
وفي جامع الترمذي وغيره عن عمران بن حصين، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن الكي قال: فابتلينا فاكتوينا فما أفلحنا، ولا أنجحنا. وفي لفظ: نهينا عن الكي وقال: فما أفلحن ولا أنجحن.
قال الخطابي: إنما كوى سعدًا ليرقأ الدم من جرحه، وخاف عليه أن ينزف فيهلك. والكي مستعمل في هذا الباب، كما يكوى من تقطع يده أو رجله.
وأما النهي عن الكي، فهو أن يكتوي طلبًا للشفاء، وكانوا يعتقدون أنه متى لم يكتو، هلك، فنهاهم عنه لأجل هذه النية.
وقيل: إنما نهى عنه عمران بن حصين خاصة، لأنه كان به ناصور، وكان موضعه خطرًا، فنهاه عن كيه، فيشبه أن يكون النهي منصرفًا إلى الموضع المخوف منه، والله أعلم.
وقال ابن قتيبة: الكي جنسان: كي الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذي قيل فيه: لم يتوكل من اكتوى، لأنه يريد أن يدفع القدر عن نفسه.
والثاني: كي الجرح إذا نغل، والعضو إذا قطع، ففي هذا الشفاء.
وأما إذا كان الكي للتداوي الذي يجوز أن ينجع، ويجوز أن لا ينجع، فإنه إلى الكراهة أقرب. انتهى.
وثبت في الصحيح في حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب (أنهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون).
فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع، أحدها: فعله، والثاني: عدم محبته له، والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه، ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى، فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه. وأما الثناء على تاركه، فيدل على أن تركه أولى وأفضل. وأما النهي عنه، فعلى سبيل الإختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه، بل يفعل خوفًا من حدوث الداء، والله أعلم.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج الصرع:
أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح، قال: قال ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي، فقال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شيءت دعوت الله لك أن يعافيك، فقالت: أصبر. قالت: فإني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها).
قلت: الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة.
والثاني: هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه.
وأما صرع الأرواح، فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدافع آثارها، وتعارض أفعالها وتبطلها، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه، فذكر بعض علاج الصرع، وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة. وأما الصرع الذي يكون من الأرواح، فلا ينفع فيه هذا العلاج.
وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم، ومن يعتقد بالزندقة فضيلة، فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط، هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها.
وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع: المرض الإلهي، وقالوا: إنه من الأرواح، وأما جالينوس وغيره، فتأولوا عليهم هذه التسمية، وقالوا: إنما سموه بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس، فنضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ.
هذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها، وتأثيراتها، وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده. ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم.
علاج هذا النوع يكون بأمرين: أمر من جهة المصروع، وأمر من جهة المعالج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه، وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحًا في نفسه جيدًا، وأن يكون الساعد قويًا، فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل، فكيف إذا عدم الأمران جميعًا: يكون القلب خرابًا من التوحيد، والتوكل، والتقوى، والتوجه، ولا سلاح له.
الثاني: من جهة المعالج، بأن يكون فيه هذان الأمران أيضًا، حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله: اخرج منه. أو بقول: بسم الله أو بقول لا حول ولا قوة إلا بالله، والنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول: (اخرج عدو الله أنا رسول الله).
وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه، ويقول: قال لك الشيخ: اخرجي، فإن هذا لا يحل لك، فيفيق المصروع، وربما خاطبها بنفسه، وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب، فيفيق المصروع ولا يحس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارًا.
وكان كثيرًا ما يقرأ في أذن المصروع: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115].
وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع، فقالت الروح: نعم، ومد بها صوته. قال: فأخذت له عصا، وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت يداي من الضرب،، ولم يشك الحاضرون أنه يموت لذلك الضرب. ففي أثناء الضرب قالت: أنا أحبه، فقلت لها: هو لا يحبك، قالت: أنا أريد أن أحج به، فقلت لها: هو لا يريد أن يحج معك، فقالت: أنا أدعه كرامة لك، قال: قلت: لا ولكن طاعة لله ولرسوله، قالت: فأنا أخرج منه، قال: فقعد المصروع يلتفت يمينًا وشمالًا، وقال: ما جاء بي إلى حضرة الشيخ، قالوا له: وهذا الضرب كله؟ فقال: وعلى أي شيء يضربني الشيخ ولم أذنب، ولم يشعر بأنه وقع به ضرب البتة. وكان يعالج بآية الكرسي، وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع ومن يعالجه بها، وبقراءة المعوذتين.
وبالجملة فهذا النوع من الصرع، وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة، وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم، وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر، والتعاويذ، والتحصنات النبوية والايمانية، فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه، وربما كان عريانًا فيؤثر فيه هذا. ولو كشف الغطاء، لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى هذه الأرواح الخبيثة، وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت، ولا يمكنها الإمتناع عنها ولا مخالفتها، وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة، فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة، وبالله المستعان.
وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل، وأن تكون الجنة والنار نصب عينيه وقبلة قلبه، ويستحضر أهل الدنيا، وحلول المثلات والآفات بهم، ووقوعها خلال ديارهم كمواقع القطر، وهم صرعى لا يفيقون، وما أشد داء هذا الصرع، ولكن لما عمت البلية به بحيث لا يرى إلا مصروعًا، لم يصر مستغربًا ولا مستنكرًا، بل صار لكثرة المصروعين عين المستنكر المستغرب خلافه.
فإذا أراد الله بعبد خيرًا أفاق من هذه الصرعة، ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يمينًا وشمالًا على اختلاف طبقاتهم، فمنهم من أطبق به الجنون، ومنهم من يفيق أحيانًا قليلة، ويعود إلى جنونه، ومنهم من يفيق مرة، ويجن أخرى، فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل، ثم يعاوده الصرع فيقع في التخبط.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج عرق النسا:
روى ابن ماجه في سننه من حديث محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (دواء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب، ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء).
عرق النساء: وجع يبتدئ من مفصل الورك، وينزل من خلف على الفخذ، وربما على الكعب، وكلما طالت مدته، زاد نزوله، وتهزل معه الرجل والفخذ، وهذا الحديث فيه معنى لغوي، ومعنى طبي. فأما المعنى اللغوي، فدليل على جواز تسمية هذا المرض بعرق النسا خلافًا لمن منع هذه التسمية، وقال: النسا هو العرق نفسه، فيكون من باب إضافة الشيء إلى نفسه، وهو ممتنع وجواب هذا القائل من وجهين. أحدهما: أن العرق أعم من النسا، فهو من باب إضافة العام إلى الخاص نحو: كل الدراهم أو بعضها.
الثاني: أن النسا: هو المرض الحال بالعرق، والإضافة فيه من باب إضافة الشيء إلى محله وموضعه. قيل: وسمي بذلك لأن ألمه ينسي ما سواه، وهذا العرق ممتد من مفصل الورك، وينتهي إلى آخر القدم وراء الكعب من الجانب الوحشي فيما بين عظم الساق والوتر.
وأما المعنى الطبي: فقد تقدم أن كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نوعان: أحدهما: عام بحسب الأزمان، والأماكن، والأشخاص، والأحوال.
والثاني: خاص بحسب هذه الأمور أو بعضها، وهذا ضمن هذا القسم، فإن هذا خطاب للعرب، وأهل الحجاز، ومن جاورهم، ولا سيما أعراب البوادي، فإن هذا العلاج من أنفع العلاج لهم، فإن هذا المرض يحدث من يبس، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة، فعلاجها بالإسهال والألية فيها الخاصيتان: الإنضاج، والتليين، ففيها الإنضاج، والإخراج. وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين، وفي تعيين الشاة الأعرابية لقلة فضولها، وصغر مقدارها، ولطف جوهرها، وخاصية مرعاها لأنها ترعى أعشاب البر الحارة، كالشيح، والقيصوم، ونحوهما، وهذه النباتات إذا تغذى بها الحيوان، صار في لحمه من طبعها بعد أن يلطفها تغذيه بها، ويكسبها مزاجًا ألطف منها، ولا سيما الألية، وظهور فعل هذه النباتات في اللبن أقوى منه في اللحم، ولكن الخاصية التي في الألية من الإنضاج والتليين لا توجد في اللبن، وهذا كما تقدم أن أدوية غالب الأمم والبوادي هي الأدوية المفردة، وعليه أطباء الهند.
وأما الروم واليونان، فيعتنون بالمركبة، وهم متفقون كلهم على أن من مهارة الطبيب أن يداوي بالغذاء، فإن عجز فبالمفرد، فإن عجز، فبما كان أقل تركيبًا.
وقد تقدم أن غالب عادات العرب وأهل البوادي الأمراض البسيطة، فالأدوية البسيطة تناسبها، وهذا لبساطة أغذيتهم في الغالب. وأما الأمراض المركبة، فغالبًا ما تحدث عن تركيب الأغذية وتنوعها واختلافها، فاختيرت لها الأدوية المركبة، والله تعالى أعلم.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج يبس الطبع:
واحتياجه إلى ما يمشيه ويلينه روى الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه من حديث أسماء بنت عميس، قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (بماذا كنت تستمشين؟ قالت: بالشبرم، قال: حار جار، قالت: ثم استمشيت بالسنا، فقال: لو كان شيء يشفي من الموت لكان السنا).
وفي سنن ابن ماجه عن إبراهيم بن أبي عبلة، قال: سمعت عبد الله بن أم حرام، وكان قد صلى مع رسول الله ـ صلى الله وسلم ـ القبلتين يقول: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (عليكم بالسنا والسنوت، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام، قيل: يا رسول الله ! وما السام؟ قال: الموت).
قوله: بماذا كنت تستمشين؟ أي: تلينين الطبع حتى يمشي ولا يصير بمنزلة الواقف، فيؤذي باحتباس النجو، ولهذا سمي الدواء المسهل مشيًا على وزن فعيل. وقيل: لأن المسهول يكثر المشي والإختلاف للحاجة وقد روي: بماذا تستشفين؟ فقالت: بالشبرم، وهو من جملة الأدوية اليتوعية، وهو قشر عرق شجرة، وهو حار يابس في الدرجة الرابعة، وأجوده المائل إلى الحمرة، الخفيف الرقيق الذي يشبه الجلد الملفوف، وبالجملة فهو من الأدوية التي أوصى الأطباء بترك استعمالها لخطرها، وفرط إسهالها.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: حار جار ويروى: حار يار، قال أبو عبيد: وأكثر كلامهم بالياء. قلت: وفيه قولان، أحدهما: أن الحار الجار بالجيم: الشديد الإسهال، فوصفه بالحرارة، وشدة الإسهال وكذلك هو، قاله أبو حنيفة الدينوري.
والثاني ـ وهو الصواب ـ أن هذا من الإتباع الذي يقصد به تأكيد الأول، ويكون بين التأكيد اللفظي والمعنوي، ولهذا يراعون فيه إتباعه في أكثر حروفه، كقولهم: حسن بسن، أي: كامل الحسن، وقولهم: حسن قسن بالقاف، ومنه شيطان ليطان، وحار جار، مع أن في الجار معنى آخر، وهو الذي يجر الشيء الذي يصيبه من شدة حرارته وجذبه له، كأنه ينزعه ويسلخه. ويار: إما لغة في جار، كقولهم: صهري وصهريج، والصهاري والصهاريج، وإما إتباع مستقل.
وأما السنا، ففيه لغتان: المد والقصر، وهو نبت حجازي أفضله المكي، وهو دواء شريف مأمون الغائلة، قريب من الإعتدال، حار يابس فى الدرجة الأولى، يسهل الصفراء والسوداء، ويقوي جرم القلب، وهذه فضيلة شريفة فيه، وخاصيته النفع من الوسواس السوداوي، ومن الشقاق العارض في البدن، ويفتح العضل وينفع من انتشار الشعر، ومن القمل والصداع العتيق، والجرب، والبثور، والحكة، والصرع، وشرب مائه مطبوخًا أصلح من شربه مدقوقًا، ومقدار الشربة منه ثلاثة دراهم، ومن مائه خمسة دراهم، وإن طبخ معه شيء من زهر البنفسج والزبيب الأحمر المنزوع العجم، كان أصلح.
قال الرازي: السناء والشاهترج يسهلان الأخلاط المحترقة، وينفعان من الجرب والحكة، والشربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم.
وأما السنوت ففيه ثمانية أقوال، أحدها: أنه العسل. والثاني: أنه رب عكة السمن يخرج خططًا سوداء على السمن، حكاهما عمرو بن بكر السكسكي. الثالث: أنه حب يشبه الكمون وليس به، قاله ابن الأعرابي.
الرابع: أنه الكمون الكرماني. الخامس: أنه الرازيانج. حكاهما أبو حنيفة الدينوري عن بعض الأعراب. السادس: أنه الشبت. السابع: أنه التمر حكاهما أبو بكر بن السنى الحافظ. الثامن: أنه العسل الذي يكون في زقاق السمن، حكاه عبد اللطيف البغدادي. قال بعض الأطباء: وهذا أجدر بالمعنى، وأقرب إلى الصواب، أي: يخلط السناء مدقوقًا بالعسل المخالط للسمن، ثم يلعق فيكون أصلح من استعماله مفردًا لما في العسل والسمن من إصلاح السنا، وإعانته له على الإسهال. والله أعلم.
وقد روى الترمذي وغيره من حديث ابن عباس يرفعه: (إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي) والمشي: هو الذي يمشي الطبع ويلينه ويسهل خروج الخارج.
فصل: في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علاج حكة الجسم وما يولد القمل:
في الصحيحين من حديث قتادة، (عن أنس بن مالك قال: رخص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما في لبس الحرير لحكة كانت بهما).
وفي رواية: (أن عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما، شكوا القمل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزاة لهما، فرخص لهما في قمص الحرير، ورأيته عليهما).
هذا الحديث يتعلق به أمران: أحدهما: فقهي، والآخر طبي.
فأما الفقهي: فالذي استقرت عليه سنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ إباحة الحرير للنساء مطلقًا، وتحريمه على الرجال إلا لحاجة ومصلحة راجحة، فالحاجة إما من شدة البرد، ولا يجد غيره، أو لا يجد سترة سواه. ومنها: لباسه للجرب، والمرض، والحكة، وكثرة القمل كما دل عليه حديث أنس هذا الصحيح.
والجواز: أصح الروايتين عن الإمام أحمد، وأصح قولي الشافعي، إذ الأصل عدم التخصيص، والرخصة إذا ثبتت في حق بعض الأمة لمعنى تعدت إلى كل من وجد فيه ذلك المعنى، إذ الحكم يعم بعموم سببه.
ومن منع منه، قال: أحاديث التحريم عامة، وأحاديث الرخصة يحتمل اختصاصها بعبد الرحمن بن عوف والزبير، ويحتمل تعديها إلى غيرهما. وإذا احتمل الأمران، كان الأخذ بالعموم أولى، ولهذا قال بعض الرواة في هذا الحديث: فلا أدري أبلغت الرخصة من بعدهما، أم لا؟
والصحيح: عموم الرخصة، فإنه عرف خطاب الشرع في ذلك ما لم يصرح بالتخصيص، وعدم إلحاق غير من رخص له أولًا به، كقوله لأبي بردة في تضحيته بالجذعة من المعز: (تجزيك ولن تجزي عن أحد بعدك) وكقوله تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نكاح من وهبت نفسها له: (خالصة لك من دون المؤمنين) [الأحزاب: 50].
وتحريم الحرير: إنما كان سدًا للذريعة، ولهذا أبيح للنساء، وللحاجة، والمصلحة الراجحة، وهذه قاعدة ما حرم لسد الذرائع، فإنه يباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة، كما حرم النظر سدًا لذريعة الفعل، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة والمصلحة الراجحة، وكما حرم التنفل بالصلاة في أوقات النهي سدًا لذريعة المشابهة الصورية بعباد الشمس، وأبيحت للمصلحة الراجحة، وكما حرم ربا الفضل سدًا لذريقة ربا النسيئة، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العرايا، وقد أشبعنا الكلام فيما يحل ويحرم من لباس الحرير في كتاب التحبير لما يحل ويحرم من لباس الحرير.