الأمر الطبي للحرير
في الصحيحين من حديث قَتادةَ، عن أنس بن مالك قال: «رخَّص رسولُ اللهِ لعبد الرَّحمن بن عَوْفٍ، والزُّبَيْر بن العوَّام رضى الله تعالى عنهما في لُبْسِ الحريرِ لِحكَّةٍ كانت بهما»
وفي رواية: «أنَّ عبدَ الرَّحمن بن عَوْف، والزُّبَير بن العوَّام رضى الله تعالى عنهما، شكَوْا القَمْلَ إلى النبي ، في غَزاةٍ لهما، فَرَخَّص لهما في قُمُصِ الحرير، ورأيتُه عليهما»
هذا الحديثُ يتعلق به أمران؛ أحدُهما: فِقْهي، والآخر: طِبي
فأما الفقهي: فالذي استقرت عليه سُنَّته إباحةُ الحرير للنساء مطلقا، وتحريمه على الرجال إلا لحاجةٍ ومصلحةٍ راجحةٍ، فالحاجة إمَّا من شِدَّة البرد، ولا يَجِدُ غيرَه، أو لا يجدُ سُترةً سواه. ومنها: لباسه للجرب، والمرض، والحِكةِ، وكثرة القَمْل كما دلّ عليه حديث أنس هذا الصحيح
والجواز: أصح الروايتين عن الإمام أحمدَ، وأصحُ قولى الشافعي، إذ الأصلُ عدمُ التخصيص، والرخصةُ إذا ثبتت في حقِّ بعض الأُمة لمعنى تعدَّتْ إلى كُلِّ مَن وُجِدَ فيه ذلك المعنى، إذ الحكمُ يَعُم بعُمُوم سببه
ومَن منع منه، قال: أحاديثُ التَّحريم عامةٌ، وأحاديثُ الرُّخصةِ يُحتمل اختصاصُها بعبد الرَّحمن بن عَوف والزُّبَيْر، ويُحتمل تَعديها إلى غيرهما. وإذا احتُمِلَ الأمران، كان الأخذ بالعموم أولى، ولهذا قال بعض الرواة في هذا الحديث: فلا أدرى أبَلغتِ الرُّخصةُ مَنْ بعدهما، أم لا؟
والصحيح: عمومُ الرُّخصة، فإنه عُرْف خطاب الشرع في ذلك ما لم يُصرِّحْ بالتخصيص، وعدم إلحاق غير مَن رخَّص له أوَّلا به، كقوله لأبى بُرْدة في تضحيته بالجذعة من المَعْز: «تجزيكَ ولن تَجْزىَ عن أحدٍ بَعْدَك»، وكقوله تعالى لنبيه في نكاح مَن وهبتْ نفسَها له: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[17]
وتحريمُ الحرير: إنما كان سدا للذرِيعة، ولهذا أُبيح للنساء، وللحاجة، والمصلحةِ الراجحة، وهذه قاعدةُ ما حُرِّم لسد الذرائع، فإنه يُباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة، كما حَرُمَ النظر سدا لذريعة الفعل، وأُبيح منه ما تدعو إليه الحاجةُ والمصلحةُ الراجحة، وكما حَرُمَ التنفلُ بالصلاة في أوقات النهى سدا لذريعة المشابهة الصوريةِ بعُبَّاد الشمس، وأبيحت للمصلحة الراجحة، وكما حَرُمَ رِبا الفضلِ سدا لذريعةِ رِبا النَّسيئة، وأُبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العَرَايا، وقد أشبَعْنا الكلام فيما يَحِلُّ ويَحْرُمُ من لباس الحرير في كتاب: «التَّحْبِير لِمَا يَحلُّ وَيَحْرُمُ من لِباس الحَريرِ».
فصل في الأمر الطبي للحرير
وأما الأمر الطبي: فهو أنَّ الحرير من الأدوية المتخَذةِ من الحيوان، ولذلك يُعَد في الأدوية الحيوانية، لأن مخرجَه من الحيوان، وهو كثيرُ المنافع، جليلُ الموقع، ومِن خاصيَّتِه تقويةُ القلب، وتَفريحُه، والنفع من كثير من أمراضه، ومِن غلبة المِرَّةِ السوداء، والأدواءِ الحادثة عنها، وهو مُقوٍ للبصر إذا اكتُحِلَ به، والخامُ منه وهو المستعمَلُ في صناعة الطب حار يابس في الدرجة الأولى. وقيل: حار رطب فيها. وقيل: معتدل. وإذا اتُّخِذَ منه ملبوسٌ كان معتدل الحرارة في مزاجه، مسخِّنا للبدن، وربما برد البدن بتسمينه إياه.
قال الرازي: الإبْرَيْسَمُ أسخنُ من الكَتَّان، وأبردُ من القطن، يُربى اللحمَ، وكلُّ لباس خشن، فإنه يُهزِلُ، ويصلب البَشْرة وبالعكس
قلتُ: والملابسُ ثلاثة أقسام: قسمٌ يُسخن البدن ويُدفئه، وقسمٌ يُدفئه ولا يُسخنه، وقسمٌ لا يُسخنه ولا يدُفئُه، وليس هناك ما يُسخنه ولا يُدفئه، إذ ما يُسخنه فهو أولى بتدفئته، فملابسُ الأوبار والأصواف تُسخن وتُدفىء، وملابسُ الكَتَّان والحرير والقطن تُدفىءُ ولا تُسخن. فثياب الكَتَّان باردة يابسة، وثيابُ الصوف حارة يابسة، وثيابُ القطنِ معتدلةُ الحرارة، وثيابُ الحرير ألينُ من القطن وأقل حرارةً منه
قال صاحب المنهاج: «ولُبْسه لا يُسخن كالقُطن، بل هو معتدل، وكُلُّ لباس أملسَ صقيلٍ، فإنه أقلُّ إسخانا للبدن، وأقلُّ عونا في تحلل ما يتحلل منه، وأحْرَى أن يُلبسَ في الصيف، وفى البلاد الحارة»
ولمّا كانت ثيابُ الحرير كذلك، وليس فيها شيء من اليُبْس والخشونة الكائنين في غيرها، صارت نافعة من الحِكَّة، إذ الحِكَّة لا تكونُ إلا عن حرارة ويبسٍ وخشونةٍ، فلذلك رخَّص رسولُ الله للزُّبَيْر وعبدِ الرَّحمن في لباس الحرير لمداواةِ الحِكَّةِ، وثيابُ الحرير أبعدُ عن تولُّدِ القمل فيها، إذ كان مِزَاجُها مخالفا لِمزاج ما يتولَّدُ منه القمل
وأما القسمُ الذي لا يُدفىء ولا يُسخن، فالمتخَذ من الحديدِ، والرصاص، والخشب، والتُّراب… ونحوها، فإن قيل: فإذا كان لباسُ الحرير أعدلَ اللباس وأوفَقَه للبدن، فلماذا حرَّمتْه الشريعة الكاملةُ الفاضلةُ التى أباحت الطيباتِ، وحرَّمت الخبائث؟
قيل: هذا السؤال يجيبُ عنه كلُّ طائفةٍ من طوائف المسلمين بجوابٍ، فمُنْكِرُو الحِكَم والتَّعليلِ لمَّا رُفعِت قاعدةُ التعليلِ من أصلها لم يحتاجوا إلى جواب عن هذا السؤال.
ومُثْبِتُو التعليلِ والحِكَم وهم الأكثرون منهم مَن يُجيبُ عن هذا بأن الشريعةَ حرَّمته لتَصبِرَ النفوسُ عنه، وتَترُكَه لله، فتُثاب على ذلك لا سيما ولها عوضٌ عنه بغيره
ومنهم مَن يُجيبُ عنه بأن خُلِقَ في الأصل للنساء، كالحلية بالذهب، فَحَرُمَ على الرجالِ لما فيه من مَفسدةِ تَشَبُّه الرجالِ بالنساء.
ومنهم مَن قال: حَرُمَ لما يُورثُه من الفَخْر والخُيَلاء والعُجْب
ومنهم مَن قال: حَرُمَ لما يُورثه بملامسته للبدن من الأُنوثةِ والتَّخَنُّثِ، وضدِّ الشَّهامة والرجولةِ، فإن لُبْسه يُكسبُ القلبَ صفة من صفات الإناث، ولهذا لا تكاد تجدُ مَن يَلبَسُه في الأكثر إلا وعلى شمائله من التخنُّثِ والتأنُّثِ، والرَّخَاوةِ ما لا يَخفى، حتى لو كان من أشهم الناس وأكثرِهم فحوليةِ ورُجولية، فلا بد أن يَنْقُصَه لُبْسُ الحرير منها، وإن لم يُذهبْهَا، وَمَن غَلُظتْ طِباعُه وكَثُفَتْ عن فهم هذا، فليُسَلِّم للشارع الحكيم، ولهذا كان أصح القولين: أنه يَحرم على الولى أن يُلبسه الصبىَّ لما يَنشأ عليه من صفات أهل التأنيث.
وقد روى النسائي من حديث أبى موسى الأشعرىِّ، عن النبي أنه قال: «إنَّ اللهَ أحلَّ لإِناثِ أُمَّتِى الحريرَ والذَّهبَ، وحَرَّمَه عَلى ذُكُورِها».
وفي لفظٍ: «حُرِّمَ لِباسُ الحَريرِ والذَّهَبِ عَلى ذُكورِ أُمَّتى، وأُحِلَّ لإِناثِهِم»
وفي صحيح البخاري عن حُذَيفة، قال: «نهى رسولُ الله عن لُبْس الحرير والدِّيباجِ، وأن يُجلَسَ عليه»، وقال: «هُو لهم في الدُّنيا، ولكم في الآخِرَة»
———————————————-
منقول من كتاب “الطب النبوي” لابن القيم رحمه الله تعالى