اللحم منافعه ومضاره
اللَحْمٌ: قال الله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ}[الطور : 22]، وقال: { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ}[الواقعة: 21] .
وفى ((سنن ابن ماجه)) من حديث أبى الدرداء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سَيِّدُ طَعَامِ أهْلِ الدُّنيا وأهْلِ الجَنَّةِ اللَّحْمُ)). ومن حديث بُريدةَ يرفعه: ((خَيْرُ الإدَامِ فِى الدُّنيا والآخِرَةِ اللَّحْمُ)).
وفى ((الصحيح)) عنه صلى الله عليه وسلم:((فضلُ عائشةَ على النِّساءِ كفضلِ الثَّريدِ على سائِرِ الطَّعَامِ)).
و((الثريد)): الخبز واللَّحم. قال الشاعر:
إذَا مَا الْخبْزُ تَأْدِمُـهُ بِلَحْمٍ فَذَاكَ أَمَانَــةَ اللهِ الثّرِيـــدُ
وقال الزُّهْرى: أكل اللَّحْم يَزيدُ سبعين قوَّة، وقال محمد بن واسع: اللَّحْم يزيد فى البصر، ويُروى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه:
((كُلُوا اللَّحْمَ، فإنه يُصَفِّى اللَّوْنَ، ويُخْمِصُ البَطْنَ، ويُحَسِّنُ الخُلُقَ))، وقال نافع: كان ابن عمر إذا كان رمضانُ لم يَفُتْه اللَّحْم، وإذا سافر لم يفته اللَّحْمَ. ويُذكر عن علىٍّ: مَن تركه أربعين ليلة ساء خُلُقه.
وأما حديث عائشة رضى الله عنها، الذى رواه أبو داود مرفــوعاً: ((لا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بالسكِّين، فإنه من صَنِيع الأعَاجِم، وانْهشُوهُ، فإنه أَهْنَأُ وأمرأُ)). فرده الإمام أحمد بما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم مِن قَطعِه بالسِّكِين فى حديثين، وقد تقدَّما.
واللَّحمُ أجناس يختلِفُ باختلافِ أُصولِهِ وطبائعه، فنذكرُ حُكمَ كل جنس وطبعَه ومنفعَته ومضرَّته.
لحم الضأن: حار فى الثانية، رطب فى الأُولى، جيده الحَوْلىُّ، يُولِّدُ الدم المحمود القوى لمن جاد هضمُه، يصلح لأصحاب الأمزجة الباردة والمعتدلة، ولأهل الرياضات التامة فى المواضع والفصول الباردة، نافع لأصحاب المِرَّة السوداء، يُقوِّى الذهن والحفظ. ولحم الهَرِمِ والعَجيفِ ردىء، وكذلك لحمُ النِّعاج، وأجوده: لحمُ الذَّكَر الأسود منه، فإنه أخف وألذ وأنفع، والخصىُّ أنفعُ وأجود، والأحمر من الحيوان السمين أخفُّ وأجودُ غذاءً، والجَذَعُ مِن المَعْز أقل تغذية، ويطفو فى المَعِدَة.
وأفضل اللَّحْم عائذه بالعظم، والأيمن أخف وأجود من الأيسر، والمقدم أفضل من المؤخر، وكان أحبُّ الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمها، وكلُّ ما علا منه سوى الرأس كان أخفَّ وأجود مما سَفَل، وأعطى الفرزدقُ رجلاً يشترى له لحماً وقال له: ((خذ المقدَّم، وإياك والرأسَ والبطنَ، فإنَّ الداء فيهما)).
ولحم العنق جيد لذيذ، سريعُ الهضم خفيف، ولحم الذراع أخفُّ اللَّحْم وألذُّه وألطفه وأبعدُه من الأذى، وأسرعُه انهضاماً.
وفى ((الصحيحين)): أنه كان يُعجِب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولحم الظَّهْر كثير الغذاء، يُولِّد دماً محموداً. وفى ((سنن ابن ماجه)) مرفوعاً: ((أطْيَبُ اللَّحْمِ لَحْمُ الظَّهْرِ)).
لحمُ المَعْز: قليل الحرارة، يابس، وخِلْطُه المتولد منه ليس بفاضل وليس بجيد الهضم، ولا محمود الغذاء. ولحمُ التَّيْس ردىءٌ مطلقاً، شديد اليُبس، عَسِرُ الانهضام، مُولِّد للخلط السوداوى.
قال الجاحظ: قال لى فاضل من الأطباء: يا أبا عثمان؛ إياك ولحمَ المَعْز، فإنه يُورث الغم، ويُحرِّك السوادءَ، ويُورث النسيان، ويُفسد الدم، وهو واللهِ يَخْبِلُ الأولاد.
وقال بعض الأطباء: إنما المذمومُ منه المُسِنُّ، ولا سِيَّما للمُسنِّين، ولا رداءةَ فيه لمن اعتاده. و
((جالينوس)) جعل الحَوْلىَّ منه من الأغذية المعتدلة المعدِّلة للكَيْموس المحمود، وإناثُه أنفعُ من ذكوره.
وقد روى النسائى فى ((سننه)): عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم: ((أحْسِنوا إلى الماعِزِ وأمِيطُوا عنها الأذى، فإنها من دوابِّ الجَنَّةِ)). وفى ثبوت هذا الحديث نظرٌ.
وحكمُ الأطباء عليه بالمضرَّة حكمٌ جزئىٌ ليس بكلىٍّ عام، وهو بحسب المَعِدَة الضعيفة، والأمزجة الضعيفة التى لم تعتده، واعتادت المأكولات اللطيفة، وهؤلاء أهل الرفاهية من أهل المدن، وهم القليلون من الناس.
لحم الجَدْى: قريب إلى الاعتدال، خاصةً ما دام رَضيعاً، ولم يكن قريبَ العهد بالوِلادة، وهو أسرعُ هضماً لما فيه من قُوَّة اللَّبن، مُليِّن للطبع، موافق لأكثر الناس فى أكثر الأحوال، وهو ألطفُ مِن لحم الجمل، والدمُ المتولد عنه معتدل.
لحم البَقَر: بارد يابس، عَسِرُ الانهضام، بطىءُ الانحدار، يُوَلِّدُ دماً سوداوياً، لا يصلُح إلا لأهلِ الكَدِّ والتعب الشديد، ويُورث إدمانُه الأمراضَ السوداوية، كالبَهَق والجَرَب، والقُوباء والجُذام، وداء الفيل، والسَّرَطانِ، والوسواس، وحُمَّى الرِّبع، وكثير من الأورام، وهذا لمن لم يعتده، أو لم يَدفعْ ضررَه بالفُلفُل والثُّوم والدارصينى والزنجبيل ونحوه، وَذَكَرُه أقلُّ بُرودةً، وأُنثاه أقلُّ يبساً.
ولحمُ العِجل ولا سِـيَّما السمينَ مِن أعدل الأغذية وأطيبِها وألذها وأحمدِهَا، وهو حار رطب، وإذا انهضم غذَّى غذاءً قوياً.
لحم الفَـرَس: ثبت فى ((الصحيح)) عن أسماءَ رضى الله عنها، قالت: نَحرْنا فرساً فأكلناه على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أذن فى لحوم الخيل، ونَهى عن لحوم الحُمُرِ. أخرجاه فى الصحيحين.
ولا يثبت عنه حديثُ المِقدام بن معدى كرب رضى الله عنه أنه نهى عنه. قاله أبو داود وغيره من أهل الحديث
واقترانُه بالبغالِ والحَميرِ فى القرآن لا يدل على أنَّ حكم لحمه حكم لحومها بوجه من الوجوه، كما لا يدُلُّ على أنَّ حكمها فى السهم فى الغنيمة حكمُ الفَرَس، والله سبحانه يَقْرِنُ فى الذِّكْرِ بين المُتماثِلات تارةً، وبين المختلفات، وبين المتضادَّات، وليس فى قوله: {لِتَرْكَبُوهَا} ما يمنع من أكلها، كما ليس فيه ما يمنعُ من غير الركوب من وجوه الانتفاع، وإنما نَصَّ على أجلِّ منافعها، وهو الركوبُ، والحديثان فى حِلِّها صحيحان لا مُعَارِضَ لهما.
وبعد.. فلحمُهَا حارٌ يابس، غليظٌ سوداوىٌّ مُضِرٌ لا يصلح للأَبدان اللَّطيفة.
لحم الجَمل: فَرْقُ ما بين الرافضة وأهل السُّـنَّة، كما أنه أحد الفروق بين اليهود وأهل الإسلام. فاليهود والرافضة تَذُمُّه ولا تأكله، وقد عُلِمَ بالاضطرار من دين الإسلام حِلُّه، وطالَما أكله رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه حَضَراً وسَفَراً
ولحم الفَصيل منه مِن ألذِّ اللُّحوم وأطيبها وأقواها غِذاءً، وهو لمن اعتاده بمنزلة لحم الضأن لا يضرُّهم ألبتة، ولا يُولِّد لهم داء، وإنما ذمَّه بعضُ الأطباء بالنسبة إلى أهل الرفاهية مِن أهل الحَضَر الذين لا يعتادوه، فإنَّ فيه حرارة ويُبْساً، وتوليداً للسَّوداء، وهو عَسِرُ الانهضام، وفيه قوةٌ غيرُ محمودة، لأجلها أمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم بالوضوء مِن أكله فى حديثين صحيحين لا معارض لهما، ولا يصح تأويلهُمَا بغسل اليد، لأنه خلافُ المعهود من الوضوء فى كلامه صلى الله عليه وسلم، لتفريقه بينه وبين لحم الغنم، فخيَّر بين الوضوء وتركه منها، وحتَّم الوضوء من لحوم الإبل. ولو حُمِلَ الوضوءُ على غسل اليد فقط، لحُمِلَ على ذلك فى قوله: ((مَن مسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَأ)).
وأيضاً: فإنَّ آكِلَهَا قد لا يباشر أكلها بيده بأن يوضع فى فمه، فإن كان وضوؤه غسلَ يده، فهو عبث، وحملٌ لكلام الشارع على غير معهوده وعُرْفه، ولا يَصِحُّ معارضته بحديث: ((كان آخرُ الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما
مسَّت النار))
لعدة أوجه:
أحدها: أنَّ هذا عامٌ، والأمر بالوضوء منها خاص.
الثانى: أنَّ الجهة مختلفة، فالأمرُ بالوضوء منها بجهة كونها لحمَ إبل سواء أكان نِيئاً، أو مطبوخاً، أو قديداً، ولا تأثيرَ للنار فى الوضوء. وأمَّا تركُ الوضوء مما مسَّتِ النَّار، ففيه بيانُ أنَّ مَسَّ النارِ ليس بسبب للوضوء، فأينَ أحدُهما مِن الآخر ؟ هذا فيه إثباتُ سبب الوضوء، وهو كونُه لحمَ إبل، وهذا فيه نفىٌ لسبب الوضوء، وهو كونُه ممسوسَ النار. فلا تعارضَ بينهما بوجه.
الثالث: أنَّ هذا ليس فيه حكايةُ لفظ عام عن صاحب الشرع، وإنما هو إخبارٌ عن واقعة فعل فى أمرين، أحدهما: متقدَّم على الآخر، كما جاء ذلك مبيَّناً فى نفس الحديث: ((أنهم قرَّبوا إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم لحماً، فأكل، ثم حضرتِ الصلاة، فتوضأ فصلَّى، ثم قرَّبوا إليه فأكل، ثم صلَّى، ولم يتوضأ، فكان آخِرُ الأمرين منه تركَ الوضوءِ مما مسَّت النارُ))، هكذا جاء الحديثُ، فاختصره الراوى لمكان الاستدلالِ، فأين فى هذا ما يصلُح لنسخ الأمر بالوضوء منه، حتى لو كان لفظاً عاماً متأخراً مقاوِماً، لم يصلح للنسخ، ووجب تقديمُ الخاص عليه، وهذا فى غاية الظهور.
لحم الضَّب: تقدَّم الحديثُ فى حِلِّه، ولحمه حار يابس، يُقوِّى شهوة الجِماع.
ـ لحم الغـزال: الغزالُ أصــلحُ الصيد وأحمدُه لحماً، وهو حارٌ يابس، وقيل: معتدل جداً، نافع للأبدان المعتدلة الصحيحة، وجيّدُه الخِشْف.
ـ لحم الظَّبى: حارٌ يابس فى الأُولى، مجفِّف للبدن، صالح للأبدان الرطبة.
قال صاحب ((القانون)): وأفضلُ لحومِ الوحش لحمُ الظَّبىِ مع ميله إلى السوداوية.
ـ لحم الأرانب: ثبت فى ((الصـحيحين)): عن أنـس بن مالك، قال:(( أنْفَجْنَا أرنباً فَسَعَوْا فى طلبها، فأخذوها، فبعث أبو طلحة بِوَرِكِهَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهُ)).
لحم الأرنب: معتدل إلى الحرارة واليبوسة، وأطيبُها وَرِكُهَا، وأحمدُهُ أكل لحمها مشوياً، وهو يَعقِل البطن، ويُدِرُّ البَوْل، ويُفتِّت الحصى، وأكلُ رؤوسها ينفعُ مِن الرِّعشة.
ـ لحم حمار الوَحْش: ثبت فى ((الصحيحين)): من حديث أبى قتادة رضى الله عنه: ((أنهم كانوا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فى بعض عُمَرِهِ، وأنه صادَ حِمَارَ وحش، فأمَرُهم النبىُّ صلى الله عليه وسلم بأكله وكانوا مُحْرِمِين، ولم يكن أبو قتادة مُحْرِماً)).
وفى ((سنن ابن ماجه)): عن جابر قال: ((أكلْنا زمنَ خيبرَ الخيلَ وحُمُرَ الوحش)).
لحمه حار يابس، كثيرُ التغذية، مُولِّد دماً غليظاً سوداوياً، إلا أنَّ شحمَه نافع مع دُهْن القُسط لوجع الظَّهر والرِّيح الغليظة المرخية للكُلَى، وشحمُه جيد لِلْكَلَفِ طِلاءً، وبالجملة فلحومُ الوحوش كُلُّهَا تُولِّد دماً غليظاً سوداوياً، وأحمدُه الغزال، وبعده الأرنب.
لحوم الأجِنَّة: غير محمودة لاحتقان الدم فيها، وليست بحرام لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ذَكَاةُ الجَنِين ذَكَاةُ أُمِّهِ)).
ومنعَ أهلُ العراق مِن أكله إلا أن يُدْرِكَه حَيّاً فيُذَّكيه، وأوَّلوا الحديثَ على أن المراد به أنَّ ذكاته كذكاة أُمِّه. قالوا: فهو حُجَّة على التحريم، وهذا فاسد، فإنَّ أول الحديث أنهم سألوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالُوا: يا رسولَ الله؛ نذبحُ الشاةَ، فنجدُ فى بطنها جنيناً، أفنأكلهُ ؟ فقال: ((كُلُوهُ إنْ شِئْتُم فإنَّ ذكاتَهُ ذَكاةُ أُمِّهِ)).
وأيضاً: فالقياسُ يقتضى حِلَّهُ، فإنه ما دامَ حَمْلاً فهو جزء من أجزاء الأُم، فذكاتُهَا ذكاةٌ لجميع أجزائها، وهذا هو الذى أشار إليه صاحبُ الشرع بقوله: ((ذكاتُه ذكاةُ أُمِّه))، كما تكون ذكاتُها ذكاةَ سائر أجزائها، فلو لم تأتِ عنه السُّـنَّةُ الصريحة بأكله، لكان القياسُ الصحيحُ يقتضى حِلَّه.
لحم القَدِيد: فى ((السنن)): من حديث ثوبان رضى الله عنه قال: ذبحتُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم شاةً ونحن مسافرون، فقال: ((أصْلِحْ لَحْمَها)) فلم أزل أُطِعمُه منه إلى المدينة.
القديدُ: أنفع من النمكسود، ويُقوِّى الأبدان، ويُحدثُ حِكَّة، ودفعُ ضرره بالأبازير الباردة الرطبة، ويُصلح الأمزجة الحارة.
والنمكسودُ: حارٌ يابس مجفِّف، جيِّدُه من السمين الرطب، يضرُّ بالقُولنْج، ودفعُ مضرَّته طبخُه باللَّبن والدُّهْن، ويصلح للمزاج الحار الرطب.