فصل في هديه في إصلاح الطعام الذي يقع فيه الذباب وإرشاده إلى دفع مضرات السموم بأضدادها
في الصحيحين من حديث أبي هُريرة، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقَعَ الُّذَبابُ في إناءِ أحَدِكُم، فامْقُلُوه، فإنَّ في أحد جنَاحيهِ داءً، وفى الآخرِ شِفَاءً».
وفي سنن ابن ماجه عنِ أبي سعيد الخدري، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحَدُ جناحي الذُّبابِ سَمٌ، والآخَرُ شِفَاءٌ، فإذا وَقَعَ في الطَّعَام، فامْقُلُوه، فإنه يُقَدِّمُ السُّمَّ، ويُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ».
– هذا الحديث فيه أمران: أمرٌ فقهي، وأمرٌ طبي:
– فأما الفقهي:
فهو دليلٌ ظاهر الدلالةِ جدًاً على أنَّ الذُّباب إذا مات في ماء أو مائع، فإنه لا يُنجِّسه، وهذا قول جمهور العلماء، ولا يُعرف في السَّلَف مخالفٌ في ذلك. ووَجهُ الاستدلال به أنَّ النبي أمر بمَقْلِهِ، وهو غمسُه في الطعام، ومعلومٌ أنه يموت من ذلك، ولا سِيَّما إذا كان الطعامُ حارا. فلو كان يُنجسه لكان أمرا بإفساد الطعام، وهو إنما أمر بإصلاحه، ثم عُدِّىَ هذا الحكمُ إلى كل ما لا نفس له سائلة، كالنحلة والزُّنْبُور، والعنكبوت، وأشباهِ ذلك. إذ الحكمُ يَعُمُّ بعُموم عِلَّتِه، وينتفي لانتفاء سببه، فلما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقودا فيما لا دم له سائل انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاءِ عِلّته.
ثم قال مَن لم يحكم بنجاسة عظم الميتةِ: إذا كان هذا ثابتا في الحيوان الكامل مع ما فيه من الرُّطوبات، والفضلات، وعدم الصلابة، فثبوته في العظم الذي هو أبعدُ عن الرُّطوبات والفضلات، واحتقان الدم أولى، وهذا في غاية القوة، فالمصيرُ إليه أولى.
وأول مَن حُفظ عنه في الإسلام أنه تكلَّم بهذه اللَّفظة، فقال: ما لا نفسَ له سائلة؛ إبراهيم النخعي وعنه تلقاها الفقهاءُ والنفس في اللُّغة: يُعَبَّر بها عن الدم، ومنه نَفَست المرأة بفتح النون إذا حاضت، ونُفِست بضمها إذا ولدت.
– وأما المعنى الطبي:
فقال أبو عُبَيْد: معنى «امْقُلُوه»: اغمسوه ليخرج الشفاء منه، كما خرج الداءُ، يقال للرجلين: هما يَتمَاقلان، إذا تغاطَّا في الماء.
واعلم أنَّ في الذُّباب عندهم قُوَّةً سُمِّيَّةً يدل عليها الورم، والحِكَّة العارِضة عن لسعِه، وهى بمنزلة السِّلاح، فإذا سقط فيما يؤذيه، اتقاه بسلاحه، فأمر النبي أن يُقابلَ تلك السُّمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء، فيُغمسَ كُلُّه في الماء والطعام، فيقابل المادةَ السُّمية المادة النافعة، فيزول ضررُها. وهذا طِبٌ لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارجٌ من مِشكاة النُبوَّة، ومع هذا فالطبيب العالِم العارِف الموفَّق يخضع لهذا العلاج، ويُقِرُّ لمن جاء به بأنه أكملُ الخلق على الإطلاق، وأنه مُؤَيَّد بوحي إلهي خارج عن القُوَى البَشَرية.
وقد ذكر غيرُ واحد من الأطباء أن لسع الزُّنبور والعقرب إذا دُلِكَ موضعه بالذُّباب نفع منه نفعا بيِّنا، وسكَّنه، وما ذاك إلا للمادة التي فيه من الشفاء، وإذا دُلِكَ به الورمُ الذي يخرج في شعر العَيْن المسمَّى شَعْرَة بعد قطع رؤوس الذُّباب، أبرأه.